أحسن من الشرف مفيش

TT

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. هذا ما أردده لنفسي من كلام الله حين تضرب الفوضى الفكرية حصارا حول قدرتي على استخلاص الحقيقة من وسائل الإعلام. فها أنذا أتابع نشرات الأخبار من «الجزيرة» إلى الـ«سي إن إن» ومنها إلى الـ«بي بي سي» و«النيل» وغيرها. ورغم إصراري علي معرفة رأي الشارع فيما يتعلق بالمكافآت التي تمنحها البنوك سنويا لكبار الموظفين تشبط في ذاكرتي جملة واحدة تتردد إعلاميا مفادها، أنه بلا مكافآت قد تختفي الاستثمارات من البنوك مع هجرة الموظفين إلى بلاد أخرى.

بالعربي الفصيح هذه الجملة تسمح للبنوك المفلسة التي أنقذتها الحكومات علي حساب رجل الشارع المنكوب، الذي تنهكه الضرائب بأنواعها، الطيب منها والخبيث جدا، بالاستمرار في إثراء بعض الموظفين على حساب الشعب، رسميا وبأمر الحكومة.

وهي أيضا دعوة مفتوحة للتغاضي عن الفساد الإداري في البنوك الذي أسهم في الأزمة الاقتصادية التي يعيشها العالم حاليا. إنها إذن توحي بـأنه من الأفضل أن تستمر الأمور على ما كانت عليه.. في انتظار معجزة.

أعترف أنه لا علاقة مباشرة بين هذا التضليل الإعلامي والحملة التي يشنها الإعلام المصري على محمد البرادعي، منذ لمح بأنه على استعداد لترشيح نفسه لمنصب رئاسة الجمهورية في الانتخابات المقبلة. غير أن أسلوب الطرح في كلتا الحالتين ذكرني بمقولة الفنان المصري الراحل توفيق الدقن، الذي اشتهر بأداء أدوار الشر. كان إذا أتى فعلا مشينا قال: أحسن من الشرف مفيش. ويترك التفسير لذكاء المشاهد.

لقد وصف أحد كتاب «الشرق الأوسط» أسلوب الإعلام المصري في تقييم البرادعي بأنه نوع من فرش الملاية. فالرجل يهاجم بالتشكيك في مصريته لأنه أمضى سنوات طوالا في العمل خارج مصر. وآخر يذكر بأنه كان تلميذا خائبا في امتحان وزارة الخارجية. وثالث يهاجمه علي أنه عميل أميركي لا يقدر مصلحة البلد. وما زال الهجوم مستمرا وكأن أحوال مصر والمصريين قد بلغت ذروة الثبات والنبات واختفت العشوائيات والأمية والأوبئة وحوادث الطرق والبطالة وتلوث البيئة، ومن ثم يجب أن تبق الأمور على ما هي عليه في انتظار معجزة. وينام أصحاب الأقلام، ولسان حال كل منهم يقول: أحسن من الشرف مفيش.

لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. ولقد وهبني الله عقلا وعلما وضميرا يقول بأن البرادعي لا يمكن أن يكون خائبا وهو أحد حملة شهادة الدكتوراه في القانون، وقد خدم مصر كدبلوماسي لأكثر من عشر سنوات وأعيد انتخابه لمنصبه في وكالة الطاقة الذرية عدة مرات. وبذلك يكون ملما بلغة الدبلوماسية الدولية وخارطة التحالفات والقوى التي تحكم العالم. كما أنه أثبت كفاءة لا يمكن التشكيك فيها كإداري. وإن فتحنا باب التشكيك في وطنيته ونزاهته فالمتهم يظل بريئا إلى أن تثبت إدانته.

وما قاله البرادعي عن ضرورة أن تكون الانتخابات حرة وتحت إشراف السلطة القضائية يندرج تحت بند الكلام الجميل والكلام المعقول. المشكلة الحقيقية التي لا ينفك عقلي يصطدم بها هي أنه لم يتكلم عن برنامج سياسي حقيقي يسعى لتحقيق ولو جزء من المعجزة المنتظرة. لم يقدم رؤية تشير إلى أن السلطة ليست مبتغاة أو أنه على استعداد للتنحي بعد فترة انتقالية تعيد للسلطة القضائية هيبتها وللبنى التحتية أهميتها، ويعتمد فيها دستورا جديدا لمستقبل مصري أفضل.