مكتبة العميان

TT

كان خورخي لويس بورخيس، طه حسين أميركا اللاتينية. مثله كان اعمى، ومثله، أو أقل قليلا، جاهد في الفكر والشعر والأدب والرواية حتى غبطه الراؤون. وقد جعل بورخيس أمينا على المكتبة الوطنية في الأرجنتين، أحد كنوز البلاد، فكتب قصيدة بعنوان «الهديتان» قال فيها «سبحان الله الذي منحني الكتب والعمى بلمسة واحدة». وقال إن الناس تتخيل أن الأعمى لا يرى سوى الظلام كما في قول شكسبير «متأملا العتمة التي يستطيع الأعمى حقا رؤيتها»، أما هو فلم يكن يستطيع رؤية اللون الأسود.

«واللون الآخر الذي لا يستطيع هذا الأعمى رؤيته هو الأحمر. انني أعيش دوما في عالم ضبابي مائل إلى الزرقة أو الخضرة.

عالم الأعمى ليس العالم الذي يتخيله الناس. لكن لا بد أن أوضح أنني أتحدث باسمي وباسم والدي وجدي اللذين توفيا أعميين. أعميان ضاحكان، وعلى شجاعة كبرى، كما أتمنى أنا أن أموت. لقد ورثا أشياء كثيرة، كالعمى مثلا. لكن المرء لا يرث الشجاعة. يعيش الأعمى في عالم مبهم لا تعريف له، تتغير فيه الألوان. أنا، مثلا، أرى الأخضر والأصفر أحيانا. لكن من يدري، ربما كان أزرق. الأبيض اختفى تماما، أو هو رمادي أحيانا. الأحمر اختفى تماما. لكنني أتمنى أن يمكنني العلاج الذي أخضع له الآن أن أرى ذلك اللون العظيم ذات يوم، اللون الذي يلمع في الشعر والذي له أسماء جميلة كثيرة في جميع اللغات، بعكس الاصفر مثلا.

«لقد حظيت في حياتي بتشريفات كثيرة لا أستحقها، أهمها مديرية المكتبة الوطنية في بوينس أيرس. لكن تعييني كان سياسيا لا أدبيا. وكم فرحت عندما عدت إلى ذلك المكان الذي كنت أجيء اليه طفلا مع والدي. كان أبي أستاذا في علم النفس، وكان يأخذني معه ليطالع بعض الكتب الخاصة، أما أنا فكنت أقرأ في الموسوعة البريطانية. ذات مساء قرأ ثلاث مقالات تحت حرف الدال، بينها واحد عن الدروز.

«كان مدير المكتبة قبلي، خوسيه مارمول، أعمى هو أيضا. وكذلك الذي قبله. ثلاثة من العميان في أهم موقع للقراءة. هذا طقس لا سياسة. على أنني لم أسمح للعمى أن يذلني، أو أن يشلني. قررت أن أستمر في كتابة الشعر. مضيت أعطي الدروس في الجامعة وطبعا أمنح معدلات النجاح لجميع الطلاب. ووضعت كتابا له عنوان متعال قليلا ومزيف قليلا: في مديح الظلمة.

«ثمة علاقة حميمة بين العمى والشعر. ألا تذكرون هوميروس. وذلك اليوناني الآخر تاميريس، الذي للأسف ضاع جميع شعره في معركة خاسرة مع عرائس البحر».

أما أوسكار وايلد فقال إن الأقدمين ادعوا بأن هوميروس أعمى. وتذكرون أن البعض قال ايضا إن طه حسين لم يكن أعمى، كأنما العمى هواية.