أوباما وسياسة الإرجاء

TT

منذ عقود عديدة مضت، عندما كنت في بداية حياتي المهنية كضابط ميداني في صفوف «وكالة الاستخبارات المركزية»، كنت على درجة من السذاجة خلقت لدي قناعة بأنه حال إبلاغ واشنطن بالحقائق القائمة على أرض الواقع على النحو الصحيح، فإن كل الأمور ستسير على أكمل وجه من تلقاء نفسها فيما يخص عملية صنع السياسة. وتلقيت أول صدمة أفقدتني هذه البراءة عندما أدركت أن «جميع السياسات تحمل طابعا محليا»، وأن الحقائق القائمة في الخارج لا ترتبط سوى على نحو جزئي بالجهود الجارية في الداخل لرسم السياسة الخارجية.

وعند النظر إلى التوجيهات السياسية الجديدة التي أصدرها الرئيس أوباما بالنسبة لأفغانستان، يتضح أن الاعتبارات المتعلقة بالأوضاع السياسية الداخلية في واشنطن تفوق في ثقلها التحليلات الخاصة بالأوضاع في أفغانستان. وكنت آمل أن يشرح أوباما للشعب الأميركي أننا لا نحرز نصرا في الحرب في أفغانستان، بل في الواقع من المتعذر إحراز نصر في هذه الحرب في إطار أي جدول زمني عملي. ورغم امتلاك أوباما الذكاء وبعد النظر بما يكفي كي يدرك هذه الحقيقة، فإن إعلان مثل هذا الاعتراف ـ مهما بلغت صحته ودقته ـ سيعد بمثابة التوقيع على حكم بالموت على رئيس سيجري تصويره باعتباره انتزع الهزيمة من فك «النصر».

حاليا، لا يزال الوضع «الفعلي» في أفغانستان فوضويا، والتفاصيل معروفة لدى الجميع. من ناحيتهم، يعترف كبار القادة العسكريين بأننا لا نحرز في الوقت الراهن نصرا في معركة الفوز بالعقول والقلوب في أفغانستان. في الواقع، من المتعذر مطلقا أن نحقق ذلك، وقطعا من المستحيل إنجاز ذلك باستخدام السلاح. ولن يقبل غالبية البشتون مطلقا بخطة أميركية لمستقبل أفغانستان. أما غير البشتون ـ الطاجيك والأوزبك والهزارة وغيرهم ـ فيرحبون بطبيعتهم بأي دعم خارجي في إطار ما يشكل فعليا حربا أهلية. وقد انتهى الحال بالولايات المتحدة عن غير قصد منها بالانحياز إلى صف معين في خضم هذه الحرب. وينظر كثير من الأفغان إلى القوات الأميركية باعتبارها جيشا محتلا يتسبب في سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين. والآن، توسعت رقعة الصراع إلى داخل باكستان، الأمر الذي ينطوي على مخاطر أكبر.

قد تبدو سياسات أوباما بمثابة حلول وسطى غير مرضية تجمع بين حجج متعارضة، ذلك أن القوات الإضافية البالغ عددها 30.000 جندي ربما تبدو أقل من التعزيزات التي دعا إليها البعض ولن تفلح في إحداث تحول جوهري في مسار الأحداث. ويرى هذا المعسكر أن القوات الإضافية لن تضيف سوى مزيد من الأهداف الأميركية، علاوة على أنها ستتسبب في تفاقم مشاعر كراهية الأجانب الذين يتجولون عبر قرى البشتون وديارهم. ومن الحمق الاعتقاد بإمكانية إقناع السكان المحليين في مناطق البشتون بأن طالبان هي العدو، ذلك لإدراكهم أن الجماعة تشكل أهم عنصر في الحياة السياسية البشتونية، بجانب أنها ستبقى لأمد طويل بعد أن يتملك السأم واشنطن حيال هذه المهمة برمتها.

قامت الاستراتيجية الأميركية تجاه أفغانستان في عهد بوش على فكرة أنها تمثل نقطة تمركز إمبريالية حيوية في العالم الذي تحلم به واشنطن في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي، حيث توجد مئات القواعد الأميركية في الخارج بهدف تعزيز هيمنة واشنطن العالمية والإبقاء على روسيا والصين قيد السيطرة والاحتفاظ بالريادة الأميركية عالميا. الآن، تلاشت هذه الرؤية العالمية ـ فيما عدا بعض السياسيين المحافظين الذين يتسمون بعناد شديد وما زالوا عاجزين عن إدراك كنه الهياكل العالمية الجديدة الناشئة على أصعدة القوة والاقتصاد والمكانة والنفوذ.

الأمر المؤكد أن طالبان ستشارك حتما في أي هيكل لحكم أفغانستان في المستقبل، شئنا أم أبينا. ومن المعتقد أن القيادات المستقبلية لطالبان، بمجرد تخلصها من الاحتلال، لن يبقى لديها حافز كبير تجاه دعم المخططات الجهادية العالمية. في الواقع، لم تلجأ الجماعة إلى هذا الأمر قط بمحض اختيارها، بل على العكس، ورثت طالبان بن لادن كعنصر سام من إرث الماضي عندما تولت السلطة عام 1996، وتعلمت درسا مريرا حيال ما يعنيه توفير دعم الدولة لجماعة إرهابية معروفة.

حال انضمام طالبان إلى السلطة الحاكمة، ستتوافر لديها الكثير من الحوافز للترحيب بالأموال والخبرة الأجنبية إلى داخل البلاد، بما في ذلك مناطق البشتون، طالما أن ذلك لا يشكل جزءا من حزمة استراتيجية غربية. ورغم أن وجود نظام إسلامي متشدد ليس النتيجة المثالية بالنسبة لأفغانستان، فإنه يبقى النتيجة الأكثر واقعية. ومن المتعذر تماما تغيير الحقائق على أرض الواقع والوصول إلى نتيجة مغايرة تماما، وإنما ستسفر مثل هذه الجهود عن مواجهة أوباما المعضلة ذاتها العام القادم.

في تلك الأثناء، لن تبدي باكستان قط استعدادها أو قدرتها على تسوية معضلة واشنطن في أفغانستان. المعروف أن استقرار باكستان وصل إلى حافة الهاوية بسبب المطالب الأميركية لها بضرورة تسويتها المشكلة التي خلقتها أميركا بنفسها داخل أفغانستان. في نهاية الأمر، ستضطر باكستان إلى تسوية المشكلة الأفغانية بنفسها، لكن فقط بعدما ترحل القوات الأميركية، وفقط من خلال إبرام اتفاق مع طالبان داخل أفغانستان وفي باكستان ذاتها.

في الوقت الحاضر، تحولت الولايات المتحدة، مثلما الحال مع الكثير من عناصر «الحرب العالمية ضد الإرهاب»، إلى جزء من المشكلة أكثر من كونها جزءا من الحل. إننا نرسل الآن قوات للدفاع عن قوات يشكل وجودها في حد ذاته إهانة للمشاعر الوطنية الأفغانية. الواضح أن الانسحاب السريع فقط من أفغانستان هو القادر على منع تفاقم المشكلة.

من ناحية أخرى، يتحتم على الأفغان، كأناس بالغين، مواجهة الآليات المعقدة للصراع الداخلي والمصالحة. في الحقيقة، لقد فعل الأفغان ذلك بالفعل على امتداد فترات طويلة من تاريخهم. أما التداعيات الاستراتيجية المترتبة على ذلك فتحمل أهمية أكبر بالنسبة لباكستان وروسيا والصين وإيران والهند ودول أخرى بالمنطقة عن الولايات المتحدة وأوروبا وكندا التي فقدت جميعها حماسها حيال هذه المهمة التي بات يجري الترويج لها الآن بصورة أساسية باعتبارها ترمي لإنقاذ مستقبل مشاركات «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) في صراعات «خارج نطاقه» في إطار عالم لم تعد الميول الاستراتيجية الغربية مهيمنة فيه.

في إجراء حيوي وموازٍ لقرار زيادة أعداد القوات بدرجة طفيفة، حدد أوباما موعدا للانسحاب الفعلي عام 2011، الأمر الذي اتسم بالحكمة من جانبه، حيث يأتي بمثابة تنبيه لكابل بضرورة الشروع في حل مشكلاتها. ومن الممكن أن يشكل قرار «تعزيز القوات» نجاحا إذا نجح فعليا في تنبيه المؤسسة العسكرية الأميركية وحكومة كابل إلى أن الوقت ينفد سريعا وأن عليهما إظهار تقدم سياسي وعسكري حقيقي. ويعكس قرار أوباما الإنذار النهائي الذي وجهه غورباتشوف للجيش الأحمر في أفغانستان عندما تولى السلطة.

وبذلك نجد أن هذا الصراع القبيح مستمر دون إمكانية كبيرة لإحراز تقدم ملموس. والملاحظ أنه لا تتوافر خيارات جيدة. أما أوباما فلم يقدم إلا على اتخاذ الخطوات الأولى باتجاه وضع قد ينطوي على صعوبة أكبر على الصعيدين الداخلي والخارجي العام المقبل. وسيحتاج الرئيس الأميركي إلى حظ وتوفيق هائلين كي يحقق هدفه الحقيقي، وهو خلق حد أدنى من الظروف المناسبة للانسحاب الأميركي من أفغانستان، وبذلك تتوافر ورقة توت لإخفاء ما يعد في جوهره إخفاقا استراتيجيا أميركيا بدأ منذ بداية الموقف برمته تقريبا عندما اتخذت واشنطن استجابة عسكرية عالمية ضد التحدي الذي فرضته هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001.

*الرئيس السابق لمحطة «وكالة الاستخبارات المركزية» في كابل والنائب السابق لرئيس «مجلس الاستخبارات الوطني» التابع للوكالة.. وقد قام بتأليف عدة كتب عن الشرق الأوسط.. بينها «مستقبل الإسلام السياسي»

*خدمة «غلوبال فيوبوينت»

خاص بـ«الشرق الأوسط»