المستوطنون اليهود: سنحرقكم كلكم..!

TT

بينما كان المستوطنون اليهود يحرقون مسجد قرية ياسوف الواقعة قرب مدينة نابلس، ويخطّون على جدران القرية «سنحرقكم كلكم»، وهي العبارة التي كان يكتبها النازيون الألمان على منازل اليهود في الثلاثينيات من القرن الماضي، تراجعت دول الاتحاد الأوروبي عن مشروع قرار اقترحته السويد حول الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية بعد تدخلات فرنسية وألمانية، وهما دولتان متورطتان في بناء الترسانة النووية الإسرائيلية، بعد أن استجابتا للضغوطات الإسرائيلية.

ومع أنّ مشروع القرار كان أفضل من القرار الذي اتخذ، فإن المشروع والقرار كانا بعيدين عن العدالة التي تلبي متطلبات الشرعية الدولية. فما تضمنته مسودة المشروع هو أن مجلس الاتحاد الأوروبي «يحض» الحكومة الإسرائيلية على وقف كل النشاطات الاستيطانية فورا، بما في ذلك في القدس الشرقية وتفكيك البؤر الاستيطانية التي أنشئت «منذ آذار 2001»، ويؤكد حسب المشروع أن المستوطنات وجدار الفصل في الأراضي المحتلة وتدمير المنازل «ممارسات غير شرعية» بموجب القانون الدولي وتشكل «عائقا أمام السلام».

وحين أعرب المجلس عن «بالغ قلقه» أمام الوضع في القدس الشرقية «ناشد الأفرقاء كافة»، أي إسرائيل المدججة بالأسلحة النووية والفلسطينيين العزل على حد سواء، الامتناع عن «الممارسات الاستفزازية»، وبذلك يتساوى المستوطنون الذين أحرقوا مسجد قرية ياسوف مع المدنيين الفلسطينيين العزل المحاصرين منذ سنوات في غزة.

كما دعا المجلس «محتجزي الجندي الإسرائيلي المخطوف جلعاد شاليط إلى الإفراج عنه فورا». فيما أهمل المجلس كليا مصير عشرات الآلاف من الأسرى الفلسطينيين المختطفين منذ سنوات بمن فيهم الأطفال والنساء وأعضاء منتخبون في البرلمان الفلسطيني. هذه اللغة الخجولة التي لا تدين الجرائم الإسرائيلية في تهجير السكان الأصليين وهدم منازلهم، بل تعتبر كل سياسة التطهير العرقي والعقوبات الجماعية المفروضة على شعب أعزل مجرد «ممارسات غير شرعية» وهي بالتأكيد لا تستوجب (حسب نص المشروع) فرض عقوبات رادعة على منفذيها من حكام إسرائيل كما تفعل وبحماس ضد إيران بسبب سياستها النووية. ولتجنب إبراز الوجه البشع للجرائم الإسرائيلية تدعو «الأفرقاء كافة الامتناع عن الممارسات الاستفزازية»، وبذلك فإن الاتحاد الأوروبي يعتبر الرضيع الفلسطيني الذي هدمت إسرائيل منزل أهله في حي الجراح بالقدس والذي ينام في خيمة مع أهله مثل مئات العوائل الأخرى في غزة، من «الأفرقاء» الذين يجب ألا يستفزوا إسرائيل!

كلّ هذا التسامح الأوروبي السخي مع الجرائم الإسرائيلية، وكل هذا الخجل من الوقوف وقفة لائقة بوجهها، ولو لفظيا، جوبهت بحملة إسرائيلية شرسة تمكنت من إفشال مشروع مجرد بيان متواضع مثل هذا من الصدور، ونجحت في استبدال اللغة الخجولة التي «تحض» و«تحيي» و«تشجّع» بلغة مجردة وضبابية وغير ملزمة ولا تحمل أي قوة على إيقاف الجرائم أو ردع مرتكبيها.

لن يكون لمثل هذا الموقف الأوروبي المتهاون أثر سياسي دائم لصالح قضية الحرية والديمقراطية في فلسطين، ولذلك وإدراكا من الحكومة الصهيونية أن ابتزاز الأوروبيين هو سيد الموقف وهو الذي يؤتي أكله لهم، فقد قامت إسرائيل بعد أن حاباها الأوروبيون وأداروا العين العمياء لضمائرهم بمنع وفد من النواب الأوروبيين من التوجه إلى قطاع غزة دون أن تخشى أي ردّ فعل أوروبي حازم، بل اكتفى الأوروبيون بالقول «من الغريب أن يأتي الإلغاء بعد ساعات من إعلان بيان مجلس الاتحاد الأوروبي الذي يؤكده موقف أوروبا القوي بشأن قيام دولة فلسطينية في حدود 1967 ووقف الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية المحتلة». ولكن الحقيقة هي أن الاتحاد الأوروبي لم يعبر عن «موقف قوي» بشأن القدس والدولتين، بل طأطأ رأسه للابتزازات الإسرائيلية وعاد إلى التعامي عن الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية، ولذلك كان عليه أن يتقبل مزيدا من الابتزاز الإسرائيلي، وذلك بمنع نوابه من دخول غزة، وإلغاء تصريح الدخول لهم بعد ثلاث ساعات من منحهم التصريح. هذا التعامل الرسمي الإسرائيلي المهين للنواب الأوروبيين لا تقبل به أصغر دولة في العالم، فكيف يقبل به أكبر برلمان تعرفه أوروبا، ويفترض أن له سمعته ومكانته في العالم؟

إذا استمر مجلس الاتحاد الأوروبي بالخضوع لضغوطات إسرائيلية مصدرها حكومة يمينية متطرفة ومروجوها دول مثل ألمانيا وفرنسا ما زالت تعتقد أنها، هي نفسها، التي ارتكبت الهولوكوست، فإن الجرائم الإسرائيلية ضد المدنيين ستتواصل. فها هي الإحصاءات الدولية تشهد أنه بين الذكرى الماضية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذكرى الحالية، قتلت إسرائيل 1460 فلسطينيا على مرأى ومسمع أوروبا، ومع ذلك يساوي مجلس الاتحاد الأوروبي بين «الأفرقاء»، أي القاتل الإسرائيلي والقتيل الفلسطيني، المجرم والضحية، المالك للمنزل منذ آلاف السنين، والمستوطن الأجنبي الذي يطرده منه بقوة السلاح ويجلس مكانه. ومع ذلك يرى البعض أنه بمجرد تجرؤ السويد، الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي، على وضع مشروع قرار يعتبر القدس عاصمة لدولتين، فإن هذا يعني تحولا إيجابيا وكسرا لحاجز الخوف الذي عانت منه أوروبا لعقود بسبب عقدة الذنب من الهولوكوست. ولا أعلم لماذا يبقى الماضي ماثلا في أذهان من ولدوا بعد الهولوكوست، فليس الجيل الأوروبي الجديد هو من ارتكب ما ارتكبه النازيون بحق يهود ألمانيا، وليس يهود إسرائيل اليوم هم ضحايا معاداة السامية في ألمانيا، بل هم جلادو الشعب الفلسطيني الذي يحرمونه من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

والأوروبيون اليوم يحمّلون شعوبهم وزر الظلم الكبير الذي يلحقه الإسرائيليون بالفلسطينيين، ويحمّلونها عار العجز المخجل الذي تمارسه دول أوروبية قريبة من موقع الحدث، وعلى اطلاع كامل بالجرائم الإسرائيلية المشينة المرتكبة يوميا قتلا وحصارا واضطهادا ضد المدنيين في فلسطين.

وكل ما اهتمت به الصحف الغربية في ضوء هذه المسألة الهامة، هو خضوع أوروبا أخيرا للضغوط الإسرائيلية التي نجحت في لجم هذا التحرك الأوروبي، فقد كانت المقالات في «الواشنطن بوست» و«النيويورك تايمز» وتقرير «السي إن إن» و«الغارديان» و«الإندبندنت» و«الفايننشال تايمز» و«الديلي تلغراف»، كلها تنطق من مصدر خبر إسرائيلي، وهو تراجع أوروبا عن دعوتها لاعتبار القدس الشرقية عاصمة لفلسطين، وأن هذا التراجع في مصلحة إسرائيل التي تخطط لتهويد القدس، أي تطهيرها عرقيا بواسطة ارتكابها جرائم هدم المنازل الفلسطينية. وكل ما يفعلونه هو أنهم يورثون الأجيال الأوروبية القادمة شعورا بالذنب سيفوق شعور الجيل الحالي بالذنب من الهولوكوست، وسيستغرب أبناؤهم وأحفادهم كيف تعامى أجدادهم عن الحقائق خشية من الابتزاز الإسرائيلي، أو طمعا بالمال اليهودي، أو تملقا للحصول على موقع سياسي.

في أعقاب الخضوع الأوروبي المخجل للابتزاز الإسرائيلي، وتراجعهم عن اعتبار القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، وقيام الحكومة الإسرائيلية بمنع 16 برلمانيا أوروبيا من دخول القطاع بعد ثلاث ساعات من إعطائهم الإذن لدخوله، فإن الأحداث تؤكد أن الرضوخ الأوروبي إلى صلف القوة الإسرائيلية يزيد هذه القوة صلفا وتجبرا، وأن كل ما يتقنه الإسرائيليون، هو استخدام لغة القوة والابتزاز. ولا فرق في هذا بين حكومة ومستوطن، ففي الوقت الذي أصدرت الحكومة قرار منع البرلمانيين الأوروبيين من دخول القطاع كي لا يطلعوا على عمق وأبعاد الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، قام مستوطنون إسرائيليون كعادتهم بمهاجمة قرى نابلس هذه المرة، حيث تمّ حرق مسجد حديث وكبير في قرية ياسوف قرب نابلس شمال الضفة الغربية، مما أدى إلى احتراق محتوياته من سجاد ومكتبة تضم عشرات المصاحف والكتب الدينية، إضافة إلى تدمير شبكة الكهرباء وإحداث تصدعات في جدرانه وتركوا عبارات بالعبرية على الجدران تقول «سنحرقكم كلكم» و«استعدوا لدفع الثمن»، كل هذا والاتحاد الأوروبي وغيره، يطلب إيضاحات للمنع وإيضاحات للهدم، وإيضاحات للقتل، وإيضاحات للتهجير، وإيضاحات للإذلال، والإيضاح الوحيد المنطقي والسليم، هو أن الكيان الصهيوني كيان عنصري قائم على تدمير الشعب الأصلي وتدمير ثقافته ومؤسساته وخنق أبنائه وحرمانهم من حقهم في الحياة الحرة الكريمة، واتهامهم بتهديد أمن إسرائيل، ولكن الكيان الإسرائيلي العنصري، لم يعد خطرا على الشعب الفلسطيني وحده، بل على العلاقة بين المسلمين والغرب، وعلى الأمن والسلم في منطقتنا والعالم، ولم يعد الفلسطينيون وحدهم مسؤولين عن التصدي لهذه العنصرية البغيضة، بل على أوروبا والغرب أن يتحملا مسؤوليتهما في هذا الصدد. من هنا فإن الترويج الإسرائيلي في الغرب للعداء للإسلام ومنع المآذن والحجاب والتضييق على أتباع الدين الإسلامي كلها تصب في المسار العنصري ذاته الذي يؤجج النزاعات بين الشعوب.

إن لغة وجغرافية وحضارة المكان تتطلب من العالم وقفة جدية مع الممارسات العنصرية الإسرائيلية، ومع الترويج العنصري ضد المسلمين في الغرب، وهما وجهان لعملة واحدة. ولكن ولحسن الحظ، فإن جبن الحكومات الغربية يقابله وعي وجرأة على مستوى أصحاب الضمير وقادة الرأي العام الغربي، والتي هي المرحلة الانتقالية قبل أن يدرك العالم المتحضر خطورة الأنموذج الصهيوني، ليس على العرب وحدهم، بل على الأمن والسلم الدوليين. ومن هنا فإن قرارا أوروبيا حازما ضد التطهير العرقي والاستيطان والقتل هو واجب الأوروبيين تجاه أوروبا وليس فقط تجاه فلسطين.