البشوات الأتراك أمام القضاء.. غدار يا زمن

TT

حادثة استدعاء كبار ضباط الجيش التركي المتقاعدين من منازلهم وفي عطلة نهاية الأسبوع تحديدا للمثول أمام المدعي العام والاستماع إلى أقوالهم في موضوع الترتيبات لانقلاب عسكري يعد للإطاحة بحكومة العدالة والتنمية وبنهجها وسياساتها، تعتبر نقطة تحول جذري في مسار عملية التغيير الداخلي في البلاد التي شهدت 3 ضربات عسكرية والكثير من رسائل التلويح والتهديد بانقلاب محتمل عند كل أزمة سياسية أو أمنية عصفت بتركيا. 10 ساعات من الاستجواب شارك فيها أكثر من مدع عام، فشل الإعلام في التقاط ولو صورة واحدة للذكرى توثق الحدث، لكنها رغم كل شيء كانت بمثابة الانقلاب المدني الذي أعادنا بالذاكرة إلى مطلع الستينات عندما علقت مشانق عدنان مندريس رئيس الحكومة التركية وبعض أعوانه من الوزراء في أعقاب الانقلاب العسكري الذي وقع وقتها.

من أين إلى أين؟

قيادات عسكرية تمثل أمام القضاء للإدلاء بأقوالها حول استعدادات لضربة عسكرية كان يخطط لها قبل 6 سنوات، بينما يحتشد أمام مبنى المحكمة المئات من مجموعات أنصار حركات المجتمع المدني تهتف مطالبة بالمزيد من الديمقراطية وبدستور مدني جديد يليق بتركيا وبمعاقبة كل من تثبت تهمته دون تمييز بين موقعه ووظيفته ومهما علا شأنه.

تركيا التي يعرف فيها موقع المؤسسة العسكرية وقدرتها على التأثير في الحياة السياسية العامة دون أن تتحمل أية مسؤولية مباشرة حيال القضاء والمؤسسات الدستورية حتى الآن، لا بل التي يتحول فيها قادة هذه التدخلات إلى رؤساء للجمهورية في معظم الأحيان، وحيث كان نموذج عام 1980 مع آخر انقلاب نفذه كنعان اقرين خير مؤشر على ذلك، تقدم لنا هذه الأيام حالة مختلفة تماما عن التي تعودنا عليها اسمها المدعي العام زكريا أوز الذي يعرف جيدا أن الانقلابات في تركيا لم تتحول يوما إلى تهمة يعاقب عليها القانون ومع ذلك فهو يصر على قرع أبواب هذه القيادات وإلزامها بالحضور لقول ما عندها في أخطر الملفات السياسية التي تجتاح البلاد في هذه الآونة.

أواخر فبراير (شباط) 1997 كانت المصفحات تصول وتجول وسط شوارع اسطنبول في ساعات الصباح الباكر بحجة «التزييت والتشحيم»، لكن غايتها كانت أبعد وأهم من ذلك حتما، أما اليوم فلا يتردد المدعي العام في اسطنبول بدعوة قيادات الجيش التركي التي كانت في الخدمة بين عامي 2003 و2004 للاستماع إليها مطولا باسم التغيير والديمقراطية والانفتاح. البعض يحاول ربما أن يفهمِ المؤسسة العسكرية أنه لن يكون بمقدورها بعد اليوم أن تصدر بيانات منتصف الليل التحذيرية وأن تتحرك كما تشاء لعرض عضلاتها في مواجهة من يهدد وحدة البلاد وتماسكها ويخرج عن المسار العلماني الأتاتوركي المرسوم أو يعرضه للخطر بأسلوبها وطريقتها هي. البعض الآخر يصر على أن ما يجري له علاقة بتنظيف مؤسسات الدولة من الشوائب والتهم والشكوك وهو لذلك لم يتردد في استدعاء قيادات الصف الأول من أمثال قائد القوات البرية ايتاش يلمان وقائد القوات الجوية إبراهيم فرطنه وقائد القوات البحرية اوزدان اورناك للإصغاء إلى ما عندهم، مذكرا أن ما يقولونه قد ينقلب ضدهم ويتحولون إلى متهمين في أية لحظة. القضاء لم يقل كلمته النهائية حول الإفادات التي أدلى بها هؤلاء الضباط، لكن تركيا قالت كلمتها على ما يبدو هذه المرة: الانقلابات أو حتى التلويح بها لم يعد مسموحا به في البلاد. مهمة العسكر هي الالتزام بالقرار السياسي والاهتمام بشؤونهم الحربية وحدها. ومهمة حماية النظام من الداخل والذود عنه تعني الأتراك جميعهم وليست امتيازا منح للبعض لاستخدامه عند الضرورة.

ما يجري سيلزم حتما المؤسسة العسكرية التركية بمراجعة أسلوب إطلاق البيانات والنداءات والتحذيرات التي تعودنا عليها وهو سيستدعي أيضا تضييق رقعة مساحة حركتها في الداخل لكنه سيكسبها صورة جديدة تسهل لها نفض غبار الماضي ويمكنها من إجراء محاسبة ذاتية ضمن المعايير الجديدة التي تتبناها وتطرحها الحكومة التركية اليوم. لكننا لا نعرف بعد إذا ما كان كل ذلك سيطمئن المحقق أوز الممسك بملف هذه القضايا وسيدفعه للاكتفاء بما هو متوافر بين يديه ويعطي قراره على ضوئه، أم أنه سيمضي وراء أشخاص وأدلة وخيوط جديدة قد تحمل العديد من المفاجآت وتخلط الكثير من الحسابات؟

*كاتب وأكاديمي تركي