التعقل.. أجدى ردات الفعل على العنصرية

TT

«قالوا للصغير تهذب..

قالوا للكبير احشم نفسك»

(مثل شعبي في بلاد الشام)

هل يدعو إلى الاستغراب أم أنه أمر طبيعي، بل حتمي، تزايد التنافر الديني بين الحضارات بالتوازي مع التقدم التقني ودنو عالمنا أكثر من مفهوم القرية الكونية؟ لماذا كلما تكاثرت الوسائل لاكتشاف بعضنا بعضا وتقارب بعضنا من بعض.. تتنامى الهواجس والمخاوف؟

صدم التصويت السويسري المعارض لبناء مزيد من المآذن في الأراضي السويسرية كثيرين. وأساس الصدمة أنه يفترض بسويسرا، حيث لا يوجد اليوم سوى أربع مآذن فقط، أن تكون خارج نطاق التعريف الكلاسيكي لـ«القوة الأوروبية» عند أهل المشرق.

فهي أولا بلد صغير نسبيا كان مستعمرا (بفتح الميم) لا مستعمرا (بكسرها). وثانيها أنها بلد يجسد التعددية خير تجسيد، إذ إن فيه أربع لغات وطنية ويقوم على أساس نظام «كانتونات» اتحادي بني تراكميا وتوافقيا وتحالفيا عبر العقود. وثالثها أنه بلد مغلق على البحار فلم يتح له إرسال الأساطيل إلى الأصقاع البعيدة لاحتلالها والتمدد فيها. ورابعا أنه بلد بنى لنفسه سمعة عالمية عمادها الحياد والتفاهم بين قوى العالم وشعوبه لدرجة أنه بينما كانت أرضه تستضيف عددا من وكالات الأمم المتحدة.. لم يكن عضوا في المنظمة الدولية. فسويسرا لم تنضم إلى المنظمة الدولية إلا في سبتمبر (أيلول) 2002 لتصبح العضو الـ190 فيها!

ضيق الشعب السويسري بالمآذن، إذا، أمر لافت.. ويحفز على النقاش بقدر ما يدعو للقلق. ويوم الجمعة الماضي، خطر لي أن أجري جردة بسيطة في وكالات الأنباء.. في ما يلي جزء من حصيلتها:

نابلس: أضرم مستوطنون (إسرائيليون) النار في مسجد بقرية ياسوف جنوب مدينة نابلس بعدما حطموا بوابته الرئيسية. وقال مسؤول ملف الاستيطان في شمال الضفة الغربية غسان دغلس، إن عشرات المستوطنين انطلقوا من مستوطنة تفوح واقتحموا القرية واقتحموا أحد المساجد وسكبوا مواد حارقة ثم أضرموا النيران فيه. وذكر أن النيران أتت على أجزاء كبيرة من محتويات المسجد، لا سيما المكتبة التي تحوي عشرات المصاحف. وأضاف أن المستوطنين كتبوا على جدران المسجد شعارات تحرض على قتل الفلسطينيين والاستيلاء على ممتلكاتهم.

الموصل: يعتقد حازم جرجيس، الشماس في كنيسة مار أفرام بمدينة الموصل (400 كم شمالي بغداد)، أن تكرار استهداف المسيحيين في هذه المدينة هي محاولة «لإبعادهم عن إخوانهم في العراق وهذا أمر خطير للغاية». وقال جرجيس لوكالة الأنباء الألمانية، على خلفية العثور على جثتي شقيقين مسيحيين اثنين وزيادة استهداف الكنائس في مدينة الموصل، إن «الهدف من وراء هذه الجرائم هو محاولة بعض الجهات إبعاد المسيحيين عن إخوانهم بالعراق بشكل عام وفي محافظة نينوى بشكل خاص ومن ثم تهجيرهم لتحقيق غايات سياسية». وأضاف «إن كنيسة مار إفرام تلقت مجموعة تهديدات من قبل بعض المسلحين تدعونا إلى مغادرة المدينة خلال الأسابيع المقبلة، أي قبل بدء الانتخابات العامة التشريعية المقرر لها في 7 مارس (آذار) المقبل».

واشنطن: حذر خبراء أميركيون استطلعت آراءهم «وكالة الصحافة الفرنسية» من انتشار ظاهرة تحول شبان أميركيين نشأوا في الولايات المتحدة إلى العنف المسلح متأثرين بفكرة «الجهاد المقدس».

وبحسب هؤلاء الخبراء فإن واشنطن أغمضت عينيها عن هذا الأمر لعدم معرفتها بالموقف الذي يمكن اتخاذه لمواجهة هذا التهديد الآتي من داخل الولايات المتحدة. والمثال الأخير على ذلك هو ما جرى يوم الخميس، إذ أوقفت السلطات الباكستانية خمسة شبان أميركيين مشتبه في تخطيطهم لتنفيذ هجمات. والشبان الخمسة مسلمون يعيشون في فيرجينيا بإحدى ضواحي واشنطن الهادئة.

برلين / كولون: أظهر استطلاع للرأي أن واحدا من كل ثلاثة ألمان تقريبا يشعر بالقلق الشديد من توسع انتشار الإسلام في ألمانيا في حين يشعر 39 في المائة بـ«قلق بسيط» من اتساع نطاق انتشار الإسلام في المجتمع الألماني بشكل كبير.

عودة إلى سويسرا. من أفضل التعليقات على الموضوع كان مقال طارق رمضان الأكاديمي المصري ـ السويسري، وحفيد الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الأخوان المسلمين، المنشور في جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 8 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. وفيه يشير إلى أن سويسرا تواجه «على غرار الكثير من البلدان في أوروبا، رد فعل وطنيا على البروز الجديد للمسلمين الأوروبيين، ليست المآذن سوى ذريعة» له، وأن الاتجاه العنصري المحرض حاول أن «يطلق أولا حملة ضد التقاليد الإسلامية التقليدية المتمثلة بذبح الحيوانات، لكنه خشي أن يثير حساسية اليهود السويسريين، وحول بدلا من ذلك أنظاره إلى المآذن التي وجد فيها رمزا ملائما».

وتابع أن «لكل بلد أوروبي رموزه أو مواضيعه الخاصة التي يستهدف من خلالها المسلمون الأوروبيون. في فرنسا إنه وشاح الرأس أو البرقع، وفي ألمانيا المساجد، وفي بريطانيا العنف، وفي الدنمارك الرسوم الكاريكاتورية، وفي هولندا المثلية الجنسية ـ وهكذا دواليك. من المهم النظر أبعد من هذه الرموز وفهم ما يجري فعلا في أوروبا في شكل عام وسويسرا في شكل خاص: في حين تمر البلدان الأوروبية والمواطنون الأوروبيون في أزمة هوية حقيقية وعميقة، يطرح البروز الجديد للمسلمين إشكالية ـ كما أنه مخيف».

هذا الكلام صحيح. هناك هلع من سرعة النمو العددي والحضور الثقافي والاقتصادي للمسلمين في مجتمعات هرمة لها تقاليدها ولها هوياتها. وأي تقاعس من قبل المسلمين عن إدراكه سيزيد المبررات المتجمعة ضدهم لدى خصومهم.

وفي المقابل، ثمة جهات تريد للإسلام أن يصطدم بالحضارات الأخرى، مع أن الإسلام ليس مضطرا إلى استفزاز أحد، لا في الغرب المسيحي ولا في الشرق الهندوسي أو البوذي أو الكونفوشي. ولا يجوز للمسلمين أن يستدرجوا لصدامات كونية خطيرة الأبعاد.. بحجة أنهم «كفروا بعدالة المجتمع الدولي» وقرروا مجابهة عنصريي وأصوليي الديانات الأخرى بالسلاح الإلغائي والعدواني ذاته. ليس من مصلحة المسلمين أن يسمحوا لغضبهم المفهوم والمبرر بعد عقود من الاستعمار ـ المستمر بعضه كما في فلسطين حتى اليوم ـ أن يبنوا لخصومهم «جبهة موحدة» تعتبر كل مسلم، حيثما حل، «مشروع إرهابي».. أو«خائن للهوية القومية» كما يسعى غلاة القوميين الهندوس لدمغ المتدينين المسلمين في الهند.

المسألة مسألة تعقل وتبصر في رسم علاقة إشكالية ليست بنت البارحة. ألا نتذكر تعبير جورج بوش «الابن» الأخرق المذكر بالحملات الصليبية، إذ قال It is a Crusade في إحدى خطبه عن غزو العراق؟