تكسير الصلبان العربية

TT

لو كنت مواطنا سويسريا عاديا لصوّتّ ضد بناء منارات المساجد، طبعا ليس قناعة بهذا القرار الإقصائي الفاشي المتطرف، ولكن لأن حزب اليمين السويسري أدار حملة احترافية لغسل الأدمغة السويسرية لحملهم على التصويت ضد السماح لإنشاء هذه المنارات، وبلغة الأرقام والإحصائيات نجح، فقد وضع ملصقا دعائيا وزعه المتطرفون السويسريون في كل شوارع وأزقة المدن السويسرية صوروا فيه علم سويسرا بلونه الأحمر وصليبه الأبيض الشهير وقد «شوهه» عدد من المنارات السود تبدو للوهلة الأولى وكأنها صواريخ حربية أو رؤوس نووية جاهزة للتخريب والتدمير، وبجانب هذا المشهد صورة «مخيفة» لامرأة مسلمة لفها السواد ولم يبق إلا عينان شاحبتان زائغتان!

إذا قيل سويسرا انصرف الفكر لريادتها في صناعة الساعات السويسرية الدقيقة والثمينة، ويبدو أن الأذهان ستذكر أن لها الريادة أيضا بين دول العالم أجمع في حظر بناء المنارات، لكن يبقى الأمر الذي تجدر الإشارة إليه في هذا الشأن أن الجالية الإسلامية في أوروبا حين أصابها الخوف والقلق بسبب هذا القرار الجائر ـ وهم ليسوا من السذاجة أو البساطة أن يقلقوا على فقدان بناء خرساني مرتفع بالتأكيد لن يحول دون إقامة الجمعة والجماعات وكل مناشطهم الإسلامية والتربوية والاجتماعية بدليل أن أغلبية المساجد في أوروبا أصلا دون مآذن، وليس الخطر أيضا في فقدان الرمزية الإسلامية للمآذن وإن كانت مهمة ـ وإنما القلق الحقيقي ينطلق من شعورهم بأن حظر منارة مسجد سيحظر يوما ما المسجد ذاته، وأن الذي سلط القانون لمنع بناء المنارة والمسجد سيعمل يوما ما ولو في المستقبل البعيد على تحويل حياة المسلمين بأية طريقة إلى جحيم ليغادروها نهائيا إلى أوطانهم الإسلامية، وهذا ما تقوله صراحة زعامات اليمين الأوروبي المتطرف، وحتى بعض الساسة الغربيين؛ تلاحظها على قسمات الوجوه وفلتات اللسان.

الحديث عن خطر اليمين الأوروبي العنصري ليس تشاؤما، فكل المؤشرات تدل عليه، ولو كتب للأحزاب اليمينية المتشددة في الدول الأوروبية أن تحافظ على نفس الوتيرة الحالية في كسب الشارع الأوروبي فالخطر على الجالية الإسلامية داهم ولو على المستقبل البعيد، ومع أن الصوت الأوروبي المعتدل المتسامح لا يزال هو المتسيد على الساحة الغربية، فالمقلق أن التيار اليميني المتشدد الذي تغذيه مؤسسات متطرفة في صعود واضح، فمقاعدهم في برلمانات الدول الأوروبية في ازدياد، وقد كسبوا مؤخرا ولأول مرة مقاعد في برلمان الاتحاد الأوروبي.

لا يمكن أن ننسى كيف صعد التيار النازي في ألمانيا بقيادة أدولف هتلر وعبر الديمقراطية وصناديق الانتخابات ليرزح الشعب الألماني تحت نير سطوته وجبروته خاصة اليهود الذين سامهم سوء العذاب بعد أن كانوا كما الجالية الإسلامية في أوروبا وأميركا حاليا ينعمون بظلال الديمقراطية الوارفة، وبكل صراحة فزعامات اليمين المتطرف في كل دول أوروبا عبارة عن «هتلرات» ناشئة تنتظر دورها ولو في المستقبل البعيد لتضرب ضربتها.

ردود فعل بعض الزعامات الإسلامية المعتدلة والمتشددة جاءت موازية للإجراء السويسري ومساوية له في القوة ولو بالكلام، حتى أن الزعيم الليبي معمر القذافي لوح بتعامل مماثل مع المسيحية والمسيحيين في العالم الإسلامي، وهناك من لمّح إلى إزالة الصلبان من جدران الكنائس الخارجية في الدول الإسلامية، أو كتم أجراسها من أن تقرع فيسمعها المسلمون، هذا التراشق «المتطرف» من الجانبين وإن بدا على أنه زوبعة قد يرى البعض عدم تضخيمه، لكنه في الحقيقة أعراض لمرض لخطير يجب أن تعالجه الأطراف الغربية والعربية العاقلة والمعتدلة في مراحله الأولى قبل أن يستفحل ويتجاوز نطاق السيطرة، وأول خطوة التنديد بالإجراء السويسري والحد دون انتشاره في بقية أوروبا.