المغزى السياسي والمعنوي لعودة الأمير سلطان

TT

ارتدت عودة الأمير سلطان بن عبد العزيز إلى بلده أهمية سياسية وعسكرية كبيرة. السعودية في حالة حرب. السعودية في حالة دفاع عن النفس. نعم، الأمن في الداخل والعمق مستتب. لكن أنظار ملايين السعوديين والخليجيين تتوجه نحو الحدود اليمنية ـ السعودية، حيث تدور اشتباكات مريرة مع جماعات يمنية متمردة.

في هذا الظرف الطارئ، من البديهي أن يكون وزير الدفاع في مقر قيادته، وعلى رأس قواته المسلحة. لا شك أن الحرب الحدودية لا تسبب خوفا داخليا. إنما تسبب قلقا اجتماعيا. الأمير سلطان، كوزير للدفاع، قادر إلى حد بعيد، على تبديد هذا القلق النفسي، إلى جانب قيادة أخيه العاهل عبد الله بن عبد العزيز، قادر على ترسيخ الثقة بالجيش، وبالتأكيد على أن إدارة المعركة، في أيد أمينة، وقيادة مدنية وعسكرية مؤهلة لمواجهة مختلف الظروف الطارئة والاستثنائية.

فضلا عن منصبه العسكري، فالأمير سلطان ولى العهد، والنائب الأول لمجلس الوزراء. المنصبان يؤهلانه رسميا ليكون في صميم دائرة القرار السياسي والعسكري. الملك هو القائد الأعلى السياسي والعسكري. ولي عهده مستشارٌ يُستشار. يشارك في قرار من صميم اختصاصه وسلطته.

لا العلاقة العائلية. لا المنصب. لا المسؤولية. لا الرتبة. هي التي تجمع بين عبد الله وسلطان. إنها هذه الألفة البعيدة عن الرسميات. إنها هذه العلاقة الشخصية الحميمة. الثقة المتبادلة. الولاء في إخاء ووفاء ومحبة. كل ذلك ينسج علاقة فريدة داخل نظام، في مقدمة الأنظمة العربية، أهمية ونفوذا. تماسكا واستقرارا. نظام أثبت، منذ أكثر من مائة سنة، قوته وصلابته، في مواجهة التحديات سلما أو حربا. الفضل لوحدة قيادته السياسية، على الرغم من كل التكهنات المعادية، والرهانات الحاقدة والحاسدة.

ثقة الملك والشعب في الأمير سلطان تذهب إلى أبعد من مسؤولية المنصب، وألفة القرابة العائلة، والصلة الشخصية الحميمة. الثقة الملكية بسلطان، منذ الوالد المؤسس، مرورا بالإخوة سعود. فيصل. خالد. فهد. وصولا إلى عبد الله. هذه الثقة تصدر عن المكانة التي بناها هذا الأمير الممتاز، على مدى 62 عاما، كرجل دولة. كرجل مسؤولية. كرجل سلطة. كرجل مبادرة وكفاءة. وطاقة حيوية تتجاوز البيروقراطية المكتبية.

في موازاة ثقة الدولة، تأتي ثقة المجتمع. هنا أيضا، راكم سلطان على مدى السنين علاقة سهلة. حميمة. مريحة مع الناس. مع الجنود. مع القادة. مع المؤسسات الاجتماعية والدينية. مع المثقفين والصحافيين. علاقة قائمة على الحب والاحترام.

لست أبالغ. إنما أنقل إلى قارئ عربي خارج السعودية، ما أعرف عن الأمير سلطان، من خلال المتابعة. ومن خلال ما أسمع. وما أقرأ. من خلال انطباعات مئات السعوديين العاديين والمطّلعين، وعشرات المراقبين والصحافيين الأجانب والعرب الذين عرفوا السعودية، ودرسوا مجتمعها، والتقوا قياداتها وأمراءها، على مر سنين عديدة.

أجد أحيانا صعوبة لدى المراقب العربي والأجنبي في فهم الأمير سلطان. أعتقد أن هذه الصعوبة ناشئة عن تعدد مهامه، وعلاقاته الداخلية والخارجية، وتأثيره الظاهر والخفي في السياسة والدبلوماسية السعودية، على مدى يتجاوز نصف قرن. هذه الصعوبة تعود إلى العلاقة التي نسجها سلطان بين الدولة والمجتمع. بين الملك والأمير. بين الحاكم والمواطن. علاقة تستند إلى تقاليد وأعراف عربية عريقة، تختلف عن معظم النظم والأعراف التي تعوَّد عليها الباحثون والمراقبون في المجتمعات الغربية.

فَرَادة هذا الأمير ذي المسؤولية الكبيرة تتجلى في تسخير الدولة لخدمة المواطن، خارج جمودية القانون، وبيروقراطية الإدارة. تتجسد في هذا السخاء الذي لا مثيل له، ليس لكسب شخصي، أو لإرضاء مصلحي، إنما سخاء في الإنفاق على مئات المؤسسات الخيرية والصحية والاجتماعية التي يرعاها، وتصل خدماتها إلى قطاعات واسعة في المجتمع المدني والعسكري، بالإضافة إلى خدمات وتقديمات الدولة.

لست الوحيد الذي ينتهز مناسبة عودة الأمير سلطان، للدلالة على أهميتها. توقيتها. مغزاها السياسي والمعنوي. ها هو العاهل السعودي يُنَحِّي جانبا العرف المراسمي، ليكون بنفسه وبقدره ومكانته، في استقبال ولي عهده، محاطا بالأمراء من كل الأجيال. بكبار المسؤولين المدنيين والعسكريين. بل ليس غريبا أن يتخذ الاستقبال طابعا شعبيا واجتماعيا مرحبا. بل كان حرص عبد الله على أن يزور سلطان في مستشفاه السعودي. وفى منتجع نقاهته المغربي. دليلا على سماحة نفس ملك. وولاء ولي عهد. في علاقة قَلَّ أن تعرفها دوائر القرار والسلطة والسياسة، في عالم سياسي تخاصم اليوم مع نفسه.

أعود إلى السياسة، لأقول إن مغزى ارتباط عودة الأمير سلطان بالحرب الحدودية، كونه يتولى شؤون الملف اليمني منذ مدة طويلة. يعرف عن اليمن ما لا يعرفه الكثيرون. أقام علاقات وشيجة مع اليمنيين، نظاما وقبائل وأشخاصا. لعل هذا الفهم العميق لهذا البلد الشقيق المجاور، يسهل على الأمير سلطان تلافي أسباب الاشتباك، بل توفير ظروف لمصالحة اليمنيين مع أنفسهم، حرصا على أمنهم ووحدتهم وعراقة عروبتهم.

في سماحة نفسه، وطبيعته ومزاجه، وفي خبرة تجربته، فالأمير سلطان رجل تسوية. مصالحة. رجل سلام. المواطن يرتاح له. الدبلوماسية لجأت وتلجأ إليه، سرا وعلنا، لحل أكثر العقد حساسية، في العلاقات الخليجية مثلا. مكانة الاحترام. البساطة. الألفة. التهذيب. التواضع. العلاقة الشخصية التي ربطته بكبار القيادات والمسؤولين في العالم العربي والغربي. كل ذلك يُسهِّل عليه مهمته وأداءه.

لست خائفا على السعودية، من حرب حدودية تقصر أو تطول. بنى الأمير سلطان منذ توليه وزارة الدفاع (1962) جيشا تجاوز الفروسية التقليدية، ليصبح جيشا معاصرا، ثم جيشا حديثا قادرا على التعامل مع التقنيات العسكرية المعقدة. أرسل قيادات وضباطا للتدرب في أرقى الكليات العسكرية الأجنبية والوطنية. بنى سلاحا جويا هو الأقوى عربيا وإقليميا. يثبت هذا السلاح قوته الرادعة. في الحرب مع صدام. في الاشتباك مع إيران. وفي ردع إسرائيل.

جنب سلطان القوات المسلحة السعودية أمراض السياسة والآيديولوجيا التي استنزفت جيوشا عربية ودمرت أنظمة ومجتمعات. الجيش السعودي ليس فحسب مؤسسة مقاتلة. حرص الأمير سلطان على إقامة مؤسسات صحية وخيرية واجتماعية، في كل قاعدة عسكرية، لتقديم خدماتها إلى المواطنين المدنيين.

لم يعد سلطان وحيدا. عاد معه رمز آخر للوفاء بين الأشقاء. لازمه شقيقه الأمير سلمان في الرواح والعودة. في العلاج والاستشفاء والنقاهة. يعود أمير الرياض مع الشقيق الأكبر، مطمئنا واثقا بأن الأزمة الصحية التي مر بها شقيقه قد انقضت. عاد هو أيضا ليواصل عمله أميرا للرياض، منذ أن تولى الإمارة خلفا للأمير سلطان في عام 1962.