الخليج الثلاثيني

TT

تأسس مجلس التعاون الخليجي في مايو 1981 ليكون جامعة للدول العربية الست المطلة على الخليج، بوصفها دولا تملك صفات اقتصادية وسياسية واجتماعية متشابهة، والأهم بوصفها محتاجة للتعاون والتنسيق إزاء دول ضخمة ذات طموحات توسعية مثل إيران، سابقا ولاحقا، وعراق صدام حسين لاحقا، وحتى سابقا بأحلام غازي وقاسم القديمة في الكويت.

منذ قيام هذه الجامعة لعرب الخليج، لم يحصل ذاك الشيء الذي كان يوعد به من وراء إنشاء المؤسسة الجامعة، حسبما وعد به النظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي حيث أخبرنا بأن الغرض من إنشاء المجلس هو أن يكون: «صيغة تعاونية تضم الدول الست تهدف إلى تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين دولهم في جميع الميادين وصولا إلى وحدتها، وفق ما نص عليه النظام الأساسي للمجلس في مادته الرابعة». حسب نص أمانة المجلس.

النظام الأساسي يتحدث عن «تنسيق» و«تكامل» و«ترابط» في «جميع الميادين» «وصولا إلى وحدتها». هذه ليست جملا إنشائية بل هي نص النظام المؤسس.

وإذا ما وضعنا هذه الكلمات على الأرض لا نجد الواقع يعكس بشكل دقيق وحقيقي ما جرى، رغم كل لحظات التعاون الجميلة، لكن هناك لحظات من عدم التنسيق، وهناك تنافر في بعض الميادين، لكنها ميادين مهمة.

لقائل أن يقول: هذه كانت الأهداف والطموحات قبل نحو ثلاثة عقود أثناء الانطلاقة الأولى، ومن الطبيعي أن تكون الوقائع مختلفة عن الآمال والأحلام، وهذه صفة لا تنحصر فقط في هذه المنظمة الإقليمية بل هي قانون جار في الحياة، فالكلمات الطيبة والأماني الخيرة لا تكفي وحدها لإنشاء حقائق وعلائق سياسية، بل هي اتحاد المصلحة أو تقاربها على الأقل ثم توثيق هذه الروابط والمصالح بسياجات اجتماعية ومزيد من «التواشج» العميق الذي يجعل من التراجع عن هذه المستجدات، لاحقا، لسبب أو لآخر، أمرا عسير المنال وصعب التفكيك.

بداية، القول بأن ما يجمع دول الخليج أكثر مما يفرقها، قول صحيح إلى درجة كبيرة، دعك من الكلام العاطفي، نتحدث بأمر واقع، فهي في أغلبها دول ذات مساحات صغيرة، وكثافة سكانية قليلة، وثروة نفطية غزيرة، فهي إذن مطمع للطامعين الكبار سواء من أفيال المنطقة، أو من وراء المحيطات والبحار مثل أميركا وروسيا والصين. هذا السبب فقط يكفي لتلاحم هذه الدول ففي الاتحاد قوة كما قيل، وهذا التلاحم يعني تنسيق المواقف كما نصت عليه المادة الرابعة في النظام الأساسي.

لا أعتقد أن التعويل على التشابه الثقافي والاجتماعي هو سبب كاف للاتحاد، فما بين اليمن، الجنوبي والشمالي، سابقا، من عناصر التشابه يكاد يصل إلى درجة التوأمة، ولكن تناقض المصالح وعدم التأسيس على منافع مشتركة، تسبب في قيام يمنين، شمالي وجنوبي، ثم وحدة هشة، ثم انفصال دام، ثم حرب وحدة أدمى وأشرس، ثم قلاقل الحراك الجنوبي الحالية، وما بين دول «الشام» كذلك، وما بين دول أميركا اللاتينية أيضا، لكن كل هذا لم يكن كافيا لنشوء «تنسيق» وتكامل سياسي بين «كل» دوله.

مجلس التعاون الخليجي، ورغم هذه المقدمة الناقدة، يعتبر أنجح منظمة تعاون عربية، ودوما يقال، يكفي أنها استمرت ثلاثة عقود، وحولها انهارت منظمات عربية أخرى مثل مجلس التعاون العربي وقبله حلف بغداد والاتحاد الهاشمي والاتحاد المغاربي. وحده مجلس التعاون الخليجي ظل يعقد قمته السنوية دون انقطاع، وتلاحم أبناء الخليج رياضيا وفنيا، وتدفقوا بعضهم على بعض من خلال الجسور والمطارات، والطرق البرية، ثم ها هي كثير من دوله تسهل التنقل ببطاقة الهوية الوطنية، ويجد المواطن الخليجي الكثير من التسهيلات في دولة خليجية، وصار المواطن الخليجي يعي هويته الجامعة حتى في أبسط الأشياء مثل وجود مسارات خاصة لمواطني دول الخليج في مطارات هذه الدول، ببساطة نشأت مع الوقت ملامح هوية خليجية مشتركة، وهذا بحد ذاته إنجاز واختراق كبير.

كثيرون من مثقفي الخليج تحدثوا عن أهمية الربط المصلحي بين دول الخليج وخلق وشائج تعاون اقتصادي وخدمي دائمة من أجل ترسيخ هذه الوحدة أو الاتحاد، سمه ما شئت، ولعل مشروع الربط الكهربائي الذي ينطلق من قمة الكويت يكون نوعا من أنواع هذا التعاون العملي.

لكن أعود إلى الغرض الرئيسي من إنشاء المجلس، ولنكن صرحاء قليلا، وهو حماية هذه الدول من أخطار ومطامح الدول الطامعة وخلق تعاون وتلاحم بين دول الخليج، ومعنى الإحساس بوجود حاجة لهذا التلاحم هو أن هناك بالفعل خطرا ماثلا أو خفيا شعرت به هذه الدول فاحتاجت للتلاحم والتضافر!

وقد برزت هذه الحاجة الأساسية والتأسيسية في قمة الدوحة 1990 التي تداعت لها دول الخليج عقب غزو جيش صدام حسين للكويت واحتلال هذا البلد الخليجي بالكامل، وكانت بالفعل قمة الاختبار لهذه المنظمة، والمحك الأصعب في تاريخها، نجحت القمة وتضافرت دول الخليج وناصرت الكويت، وهو ما تذكره أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد في تصريحاته الأخيرة لوكالة الأنباء الكويتية قبيل انطلاق القمة الثلاثين.

هذا الكلام جرى قبل نحو عقدين من السنين، الآن ما هي الأخطار التي تواجه دول الخليج؟

هنا تختلف التقويمات والتحليلات، لكن لا أظن أحدا يجادل بأن هناك أخطارا حالية تهدد منظومة الأمن الخليجي، أولها وأخطرها، والذي هو حي ساخن منها، ما يجري في جنوب السعودية من اعتداء إيراني، بالوكالة، من خلال ميليشيا الحوثي، على الأرض السعودية، والحرب التي استنزفت بها هذه الميلشيا بلدا فقيرا مثل اليمن، هذا خطر حقيقي وقائم، وليس مجرد تحليل نظري أو استشرافات للمستقبل، ولذلك حضر وزير الخارجية اليمني إلى قمة الكويت شارحا للجميع خطورة ما يجري في اليمن.

في الدوحة 1990 اصطفت دول الخليج، محقة، من أجل رفع الظلم عن الكويت، وبعثت بقوات لها على الجبهة، الآن السعودية تواجه حربا بالوكالة مع إيران، الغرض منها إنهاك حكومة صنعاء وإشغال الرياض عن القيام بدورها الإقليمي تجاه المشروع الإيراني، وهي حرب أخطر مما يحاول البعض ـ جهلا أو تجاهلا! ـ قوله من أن إيران لا علاقة لها بما يجري في جنوب السعودية.

السعودية ليست بحاجة لسند عسكري، رغم أن دولة مثل الكويت بادرت وقدمت قواتها للعون، ولكن السعودية بحاجة إلى وعي الأشقاء الخليجين، كل الأشقاء! بحقيقة وخطورة ما يجري هناك. كيف نتحدث عن «تنسيق» و«ترابط» و«تكامل» كما تنص المادة الرابعة من نظام المجلس، ونحن نرى اختلافا يصل إلى حد التباين الحاد في مقاربات دول الخليج لطبيعة الدور الإيراني في المنطقة.

ليس المطلوب هو «التناسخ» الخليجي تجاه إيران الخمينية، ومن المؤكد أن هناك حالات خاصة لكل دولة خليجية تحدد طبيعة مقاربتها وفهمها لإيران، ولكن نخشى أن ما يجري في بعض السياسيات ليس اختلافا مثريا ومفيدا، بل اختلاف ضار.

المنظمة الخليجية هي منظمة «تعاون» وليست منظمة اتحاد أو وحدة، هذا صحيح، ولكن التعاون في الحد الأدنى يكون على الأساسيات الأمنية بكل مفردات الأمن.

بكل حال، ورغم كل هذا، يحق لأبناء الخليج بعد هذه المسيرة التي استغرقت عمر جيل كامل (باعتبار أن كل ثلاثين سنة هي عمر جيل كما يقول ابن خلدون) أن يفخروا ببقاء المنظمة وصمودها في عالم من الفوضى العربية، وكذلك بتعمق صلات الوصل بين أبناء الشعوب الخليجية، وإثبات الأيام وتقلباتها أنه لا مناص من تعاون وتضافر أبناء الخليج مع بعضهم ضد من يتحينون الفرص بهم، من شرق الخليج وشماله وغربه البعيد، خصوصا بعد أن انتهى جيل كامل من عمر هذا المجلس، وهو يعقد قمته الثلاثين.

[email protected]