ليخرجوا من خلف الأسوار ويعايشوا الأبرياء مصائبهم!

TT

أكثر ما يشد الانتباه من أحداث جريمة الثلاثاء الإرهابية، كانت حالة الرعب التي ارتسمت على معالم المالكي، وتحذيره السياسيين من أن ما سماه (الهيكل)، إذا ما سقط فسيسقط على الجميع. ففي ذلك دلالة رعب من فشل مشروعهم المرفوض وفق كل القياسات التاريخية والتطور الحضاري في العالم. وكان عليه معرفة خصوصيات تربة بغداد الصالحة لبناء هياكل المشاريع الإنسانية والرافضة لركائز الحقد والتفرقة والظلم والفساد.

كان من حق الأميركيين إقامة المنطقة الخضراء لحماية مقراتهم المدنية، لأنهم غرباء عن المكان، وبقاؤهم يبقى مؤقتا. أما أن تبقي الحكومة (الوطنية) على القواعد ذاتها من أسوار العزلة بعد مرور سبع سنوات، فإنه العيب بعينه. فهل يعقل أن تحصن قيادة الحكومة نفسها خلف الأسوار وتترك مفاصل منها مكشوفة أمام الهجمات الإرهابية؟ وبأي وجه حق تُصرف الأموال لحماية كبار المسؤولين وترك الأبرياء عرضة لهجمات وحوش الإرهاب؟ هل لأن غربة بعض الحاكمين عن الزمان ومنطق العدل جعلتهم غرباء عن مكان يكرهون ما كتب له؟

كل ما يحدث من هجمات على الأبرياء تقع مسؤوليته على الفاعلين المجرمين من أي صوب كانوا، وعلى كبار مسؤولي فريق الحكم الدعوي، ولو بتهمة التقصير الناجم عن عدم المعرفة بفن إدارة الدولة. وهو سبب كاف لإسقاط حكومتهم ديمقراطيا، لتفتح عليهم بعدها ملفات لا آخر لها من الحساب. وقبل نحو عام، قررت حكومة المالكي البدء برفع الحواجز الكونكريتية المقامة حولها، لكنها لم تترد في اتخاذ قرار سريع بالتراجع، لأن قرار الرفع قد اتُّخذ لأغراض دعائية، وليس لمعايشة الناس أحوالهم والتحلي بالشجاعة لتحمّل ما يتحمله الفقراء.

على هامش الثلاثاء، تداخلت العبارات في البرلمان، فمنهم من قال (استضافة) المالكي، ومنهم ما قال عبارات أخرى. وكأن دماء الأبرياء لم تكن كافية لأن يقولوا للمالكي بأنه هو المسؤول الأول، وعليه الإجابة على تساؤلات الناس من فوق منصة (الاستجواب). وهذا يعيدنا إلى جذور المشكلة في الفرق بين الدورين البريطاني والأميركي في العراق. فعندما دخل البريطانيون العراق خلال الحرب العالمية الأولى أسسوا دولة على قواعد ديمقراطية عادلة وأكملوا إنشاء المؤسسات قبل أن يصار إلى إجراء الانتخابات. وبدل أن يأخذ الأميركيون بتلك التجربة الناجحة تعجلوا أكثر من اللازم بإجراء انتخابات لا تتوافر معطيات نجاحها. وعززوا الخطأ بإقرار مسميات التفتيت الوطني والاجتماعي. وها هم العراقيون يدفعون اليوم ثمنا باهظا للأخطاء الشنيعة.

تناغم المالكي مع المطالب بالتغيير يبقى صوريا وشكليا ما دامت قد غابت عنه نية المساواة والعدل بين الشرائح. فتغيير قائد عمليات بآخر وتحميل وزير أمني المسؤولية وتحميل البرلمان والكتل بعض المسؤولية، علاج تخديري لا أكثر. فالحرب الجارية لها أصولها البعيدة عن سياقات الخطط التقليدية، فهي حرب سرية تعتمد على إدارة فن الاستخبارات، الذي أظهر الكثير من قادة الحُكم حقدا وغلا غريبين على العاملين فيه.

القائد الجديد عمل في مجموعة التخطيط العسكري في القصر الجمهوري قبل أن يصبح آمر لواء ثم قائد فرقة في الجيش الذي سموه هم (جيش صدام) خلال حرب السنوات الثماني، وعرف بسلوك حسن. وكذلك حال الكثير من قادة الجيش الحالي. وهذا يثبت زيف الادعاءات بأن قادة الجيش السابق كانوا من السنّة. وأصبح مطلوبا من الحاكمين الرد على التساؤل: أين هم قادة الجيش السابق من السنّة؟ كلهم مجرمون؟ أم أن المجرمين بحق العراق هم الطائفيون من السياسيين؟

مما يرد إلي من رسائل يشير إلى أن جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا قد حُولت إلى جامعة دينية، وكأن الدين لا يزال غامضا بعد 1400 عام! وأن نحو (300) ضابط يعملون في جهاز الشرطة بمحافظة صلاح الدين قد أقصوا من وظائفهم أو في طريقهم إلى الإقصاء بذريعة العمل في مؤسسات أمنية سابقة، بعد أن تصدوا للإرهاب طيلة السنوات الماضية. فهل هو الغدر بعد أن غُدر بالصحوات؟ وهل يجوز اختيار رئيس أو أحد أعضاء ما سُمي هيئة المساءلة والعدالة أو أحد أعضائها من حزب طائفي؟!

ضباط الأجهزة الأمنية السابقون ممنوعون من العمل في الأجهزة الحالية التي تضاعفت أعدادها عما كان موجودا قبل 2003. فهل يعوض عنهم بـ(الدماجة) كما يصطلح عليه عن مسلحي الميليشيات؟ ولماذا يُحرم الأبرياء من حماية يستطيع آلاف الضباط المختصين في شؤون الأمن تأمينها لهم؟ وهل يعطي الخوف دليلا على أن حزب البعث عاد قويا بسبب سياسة التعسف. وهو ما يهمز به المالكي بإشارته إلى أن عدوه منظم وقوي ومدعوم. أليست هذه لحظة التحدي ليتخذ المسؤولون قرارا بالخروج من خلف الأسوار ومعايشة الأبرياء في مصائبهم؟