العقد الأول

TT

الفارق بين الكاتب وسواه، أنه يختار أن يعبر عن مشاعره، وأن يكتب قصصه وتجاربه، مرة من أجل أن يسلي الناس، ومرة من أجل أن يطلب مشاركتها، ومرة من أجل إعجاب أو تأييد. لذلك نعرف عن الكتاب أكثر مما نعرف عن سواهم. ولذلك يحولون سيرتهم، أو يحولها كتاب آخرون، إلى دراسات وروايات وأبحاث. وليست لدي فكرة دقيقة، لكنني أعتقد أن المؤلفات التي تتناول الكتاب تتجاوز ما كتب عن غيرهم. والسبب ربما أن الكتاب يأخذون من بعضهم البعض ويتأثرون ببعضهم البعض، إضافة إلى من يقلد البعض الآخر، وهي عادة الفئة التي لا تنجح كثيرا ولا تستمر طويلا.

نعرف من سير الكتاب معاناتهم ومشاعرهم ومن أحبوا ومن استنكروا. ومنها نعرف، أحيانا في صراحة وعمق، عقد العلاقة مع الأب والأم. ونعرف، من دون أن نفهم دائما، لماذا أحب أحدهم أمه أكثر من أبيه، أو لماذا أحب أباه ونفر من أمه. أو لماذا تحولت تلك الذكريات إلى حزن مرافق دوام العمر. ففي هذا المعنى نجد أن الكاتب لا يكبر، وأنه يقحم نفسه في رواياته وكأنه أراد في الواقع أن يضع كتابا واحدا طوال عمره، هو قصة حياته. أو قصة ذلك المقطع من الحياة، الذي هو المقطع الأول.

نستغرب كم يعود كاتب كبير مثل أندريه جيد أو جول رينار أو بيرتراند راسل أو جان بول سارتر أو ألبير كامو، إلى سنواته الأولى، مع أنه يكون قد أصبح كاتبا كبيرا، تجاوز أحيانا السبعين من العمر. ويبدو لنا أن ميخائيل نعيمه وضع كتابه «سبعون» فقط من أجل أن يرسم لنا صورة أمه وأبيه في عقده الأول، وكيف كان الأب يمثل الحنان والكد والطيبة، فيما كانت الأم تمثل الحنكة وبعد النظر. ونجد الصورة مماثلة للوالدين عند خليل حاوي. ونجد سارتر جافا مع والديه في «الكلمات» التي نقلها إلى العربية الدكتور سهيل إدريس. وحاول صاحب «الآداب» أن يقلد في أواخر عمره، مثاله الفرنسي، فثأر من ذكرى أبيه في حدة ومرارة وقسوة. لكنه عاد وتوقف عند الجزء الأول من المذكرات، من دون أن نعرف لماذا. أو هل هو قرار منه أو بسبب المرض الذي داهمه.

دفعني للعودة إلى هذا الموضوع أن أميركا الأدبية تعيد من جديد قراءة كاتب إيطالي الأصل يدعى جون فانتي، مات مغمورا. لقد تبين بعد وفاته أن كل رواياته كانت سيرة ذاتية عن فظاظة الأب.