5 سنوات من المستقبل العربي

TT

كان السؤال المطروح علينا متعلقا بشكل العالم العربي بعد خمسة أعوام.. أما نحن فقد كنا جماعة من أصحاب الرأي الذين جاءوا من مشارب شتى ـ رجل أعمال، ورئيس تحرير صحيفة، ومديرة لبرنامج الشرق الأوسط في معهد بحوث سياسية، ورئيس لمجلس إدارة مؤسسة نشر ـ لكي يشاركوا في الجلسة الختامية للمنتدى العربي العالمي الذي عقد أول مؤتمراته في العاصمة الأميركية واشنطن خلال يومي 7 و8 ديسمبر (كانون الأول) الحالي. والمنتدى كان فكرة نبتت لدى القائمين على منتدى مصر الاقتصادي الدولي في القاهرة، لكي يتم الرد على الخطاب الموجه إلى العالم الإسلامي والذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما في القاهرة في مطلع الصيف الماضي ولقي صدى واسعا، وكان من بين أسباب حصول الرجل على جائزة نوبل للسلام أنه غير المناخ الدولي كله من مناخ يقوم على «صراع الحضارات» إلى حالة من الحوار والمشاركة بينها في التعامل مع مشكلات التنمية والتقدم.

وكانت تفاصيل السؤال هي تحديد العناصر التي تشكل الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للعالم العربي خلال السنوات المقبلة. وفى العادة فإنني أتجنب الدخول في هذه الجلسات الافتراضية، فكما تعلمت منذ وقت طويل أن التنبؤ هو كابوس الباحث والمحلل، ولكن غياب واحد من المشاركين في هذه الجلسة رشحني لكي أحل محله، ومن ثم وجب الاجتهاد والبحث. وكانت النتيجة تحديد نصف دستة من العناصر المتفاعلة جدليا ـ ديالكتيكيا ـ مع بعضها إلى الدرجة التي يصل فيها تبادل التأثير إلى أقصى حد.

وكان العنصر الأول هو الحد الذي يصل إليه العالم العربي في الموازنة بين «الماضي والتاريخ»، وهناك فارق بينهما كالفارق بين الليل وشمس الضحى، حتى ولو كان كلاهما يتعامل مع الزمن الذي كان. الأول ـ الماضي ـ هو التاريخ حاضرا وبقسوة ممثلا للألم الذي جرى في مجموعة من الوقائع التي حدثت ولا يزال واجبا الرد عليها والتخلص من أوجاعها أو الانتقام لها، وباختصار فإن الماضي تاريخ لم يذهب بعد، وبقي حاضرا في السياسة، ولم يذهب إلى المتاحف ودراسات المؤرخين. أما التاريخ فهو ما ذهب بالذاكرة إلى الأصول، حيث البحث عن الدروس والعبر، وحيث لم يبق من الحضارة الفرعونية إلا الأهرامات والمعابد والمتاحف، وبالنسبة للنمسا لم يبق من الإمبراطورية النمساوية المجرية سوى بقايا مجد في الكنائس والقصور القديمة، والإمبراطوريات كلها من الصينية حتى البريطانية لم تعرف الانطلاقة الكبرى إلا ساعة أن أصبح الماضي تاريخا. العالم العربي سوف يظل في صراع بين ماضيه وتاريخه، وما دام الماضي لم يصبح تاريخا فإن الصراع سوف يظل جزءا من المستقبل العربي، فالتجربة الاستعمارية لم تنته بعد بحدودها القلقة، ودولتها الهشة، وقبل كل شيء وبعده الصراع مع الصهيونية.

وإذا كان التوتر قائما بين الماضي والتاريخ، فإن التوتر الثاني سوف يتعلق بالعلاقة بين الدولة المستقرة والدولة الفاشلة. لقد كان الظن شائعا أن فكرة الدولة الفاشلة تقع خارج العالم العربي في دول العالم النامي الأخرى، وعندما تفككت الصومال تماما كان الظن أنها الاستثناء الذي يثبت القاعدة، ولكن الواقع أثبت أنها المقدمة التي تجعل دولا مثل السودان واليمن والعراق، وفى بعض الأحيان لبنان، تقترب من هذه الحالة. وفي دول عربية شتى توجد كوابيس الانقسام والتفكك، لأن أحدا لم يهتم كثيرا بعوامل الربط والوحدة والهوية المشتركة. والحقيقة أن العالم العربي لم يعد كما كان عند الاستقلال، فبعده جاء التعلم، وتغيرت البنية الاقتصادية، وظهرت طبقات وجماعات، وجاءت ثورة الاتصالات من الداخل والخارج، لكي تذهب قدسية الحكام وأساطير الحكم. وببساطة زرعت الدولة العربية الحالية بذور الثورة والتمرد والاحتجاج عليها، ومن ثم بقيت السياسة في انتظار الحكمة لكي تتم إزالة هذا التوتر أو العمل على تعميقه، بالحماقة أحيانا، أو بتأثيرات قوى خارجية أحيانا أخرى.

وهنا تأتي المعادلة المتوترة الثالثة، حيث التعامل مع السكان أو مع الشعب. فالحقيقة التي لا يمكن الهروب منها هي أن عدد السكان العرب يبلغ الآن 350 مليون نسمة، معظمهم من الشباب وصغار السن الذين تنشط غددهم وقلوبهم بالحمية والقدرة المتزايدة على الإنجاب، وإذا ظل هؤلاء على حالهم فإن تساؤلاتهم حول توزيع الثروة والسلطة سوف تكون ملحة أحيانا وعنيفة أحيانا أخرى. ولكن هؤلاء أيضا يعيشون على مساحة تزيد على تسعة ملايين من الكيلومترات المربعة، أي أن العرب يعيشون على مساحة تماثل تلك التي يعيش عليها الشعب الأميركي وبنفس العدد تقريبا، وعلى مساحة تماثل الصين وبثلث العدد تقريبا أيضا، وعلى مساحات ممتدة على البحر. لقد حلل معظم العالم العلاقة بين السكان والأرض ـ أو الموارد ـ من خلال التنمية، وكان الاكتشاف أن تعبئة السكان من خلال إطلاق مواهبهم وقدراتهم الفردية هي التي جعلت أميركا على ما هي عليه الآن حتى مع الأزمة الاقتصادية، وجعلت الهند والصين من النجوم الاقتصادية مع بداية القرن الحادي والعشرين. الخيار واضح، إما أن تبقى الدولة على حالتها داخلة تحت جلد المواطنين وفي مقابلها تعمل كجمعية خيرية تجنب الفقر، أو تطلق طاقات الأفراد لكي يقوموا بتوليد الثروة.

العنصر الرابع حساس للغاية، حيث يكمن التوتر بين الدولة المدنية والشرعية الدينية، والمعضلة جاءت مع القرن العشرين وما بعد الحروب العالمية، عندما ولدت الدولة العربية المعاصرة من رحم التجربة الاستعمارية. وببساطة فإنه رغم أن دولة الخلافة العثمانية قد باتت «تاريخا»، فإن السؤال حول شرعية الحكم ظل ملحا وفى حالة مطاردة دائمة للدول العربية كلها. صحيح كانت هناك محاولات لخلق الدولة المدنية كما جرى في مصر والكثير من الدول العربية التي بحثت عن «القومية» أو الهوية «الوطنية» كمشروعية للوجود، وذهب الأمر إلى علمانية كاملة كما حدث في دولة اليمن الجنوبية الشيوعية ذات يوم، ولكن هذه الأخيرة لم تذهب فقط، وإنما ظلت الفكرة الدينية تتجاذب الدول العربية وتضغط عليها، ولا أظن أنها سوف تفك خناقها خلال السنوات الخمس المقبلة. والمرجح أن تلك السنوات سوف تكون مشغولة بنقاء تجربتين تجري كلتاهما خارج العالم العربي: أولاهما في أفغانستان، حيث تحاول «طالبان» أن تعيد تجربتها في دولة إسلامية نقية منعزلة عن عالم تراه محملا بالشرور؛ وثانيتهما تركيا، حيث العلمانية الغربية مشربة بثقافة إسلامية رفيعة. أين يذهب العالم العربي بين هذه وتلك؟ لا تكفي سنوات خمس للحكم على ذلك.

العنصر الخامس، هو الصراع العربي الإسرائيلي الذي كان ولا يزال جزءا من الحاضر العربي كما كان دائما جزءا من ماضيه، وخلال السنوات الخمس سوف يكون باراك أوباما ـ كما كان أسلافه ـ من يحاول إدارة الصراع أو حله أو التعامل معه بطريقة أو بأخرى. ولكن المفتاح لهذا العنصر سوف يظل دوما بيد الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وبغض النظر عن المواقف السياسية فإن المسألة هي على الوجه التالي: هل يقبل الفلسطينيون ومن ورائهم بقية العرب الدولة العبرية؟ وعلى الجانب المقابل هل يقبل الإسرائيليون نهاية للإمبراطورية الإسرائيلية التي تكونت في أعقاب حرب يونيو (حزيران) 1967 ومعها قيام دولة فلسطينية حقة؟ ومرة أخرى هل يقبل الطرفان أن يتحول الماضي إلى تاريخ؟!

العنصر السادس والأخير، يكمن في التوتر القائم حول النفط، فهو في عالمنا العربي ليس مصدرا للطاقة فقط، وإنما هو فوائض مالية، وتحويلات عاملين، وسياحة وعقارات وتجارة، وحركة مواصلات وإنعاش أو انكماش لقناة السويس، هو أشياء كثيرة لو ذهبت لما بقي من الاقتصاد العربي الكثير. ومن الشائع دائما القول إنه مع استبعاد النفط فإن الصادرات العربية كلها تقل عن صادرات دولة مثلجة مثل فنلندا. والتوتر هنا قائم ما بين إدمان النفط واقتصاده وأمواله، وما بين دول طبيعية متنوعة المصادر التي تجود بها مساحة مماثلة لتلك التي لدى الولايات المتحدة الأميركية. ولكن التنوع الاقتصادي يولد تنوعات سياسية واجتماعية تظهر معها طبقات وجماعات فائرة ومنظمة، وأثمانا وأثقالا لا تعرفها الدولة العربية الريعية المعاصرة نتيجة الحيوية السكانية غير المسبوقة.

ضع العناصر الستة السابقة في حالة من التفاعل مع بعضها وسوف تجد مستقبل العالم العربي خلال السنوات الخمس المقبلة. أو هكذا قلت!