مسألة المآذن في سويسرا: تحد مجاني

TT

منذ ربع قرن، دعيت لتدشين مسجد في مدينة فرنسية، كانت بلدية المدينة قد تبرعت بقطعة الأرض التي أقيم عليها المسجد. وربما بقسم من تكاليفه. وكان البناء يتضمن، بالإضافة إلى المسجد، قاعة للاجتماعات العامة ومكتبة ومركزا ثقافيا. وعلمت أن البلدية ـ وأكثرية أعضائها كانوا من الاشتراكيين ـ قامت بذلك تلبية لرغبة المسلمين المقيمين في المدينة، وتسليما بحقهم في ممارسة شعائر دينهم، وأيضا لأنها رأت في الدين والتدين رادعا يبعد الشبان المسلمين عن الشارع والفوضى والعنف. ولفت نظري، يومذاك، أن المسجد والمركز لا تعلوهما مئذنة. ولدى الاستفهام قيل لي إن ارتفاع مئذنة في وسط المدينة ربما كان من شأنه إحداث ردة فعل سلبية من قبل الفرنسيين اليمينيين الحريصين على المحافظة على الطابع الهندسي التقليدي الفرنسي، مسيحيا كان أم قوميا. ولا ننسى أن فرنسا، ومنذ مئات السنين، كانت تعتبر «ابنة الكنيسة البكر». يومها اعتبرت ما أقدمت عليه البلدية الفرنسية خطوة إيجابية للتفاهم والتعايش والاندماج، بين المسلمين المقيمين في بلاد الغرب، وأبنائها. وبقيت إشكالية المئذنة عالقة في ذهني.

كان ذلك منذ ربع قرن، أي قبل صعود ما يسمى بالمد «الإسلاموي» أو «الجهادي» أو «الأصولي السلفي». وقبل قيام الثورة الخمينية والطالبان والقاعدة والزرقاوي والحركات السياسية ـ الدينية المتطرفة في العالمين العربي والإسلامي. قبل 11 سبتمبر 2001 واندلاع الحرب بين هؤلاء والدول الغربية وغير الغربية، أيضا.

وعادت هذه الذكرى إلى بالي بعد الاستفتاء السلبي الذي جرى في سويسرا حول المآذن، والذي أثار غضب المسلمين في أوروبا والعالم واستنكار مرجعيات أوروبية سياسية ودينية، ليس أقلها موقف الفاتيكان الذي شجب الاستفتاء ونتائجه.. فهذا الاستفتاء كان مجانيا وغير ضروري. ونتائجه لا تشرف السويسريين، لأنها تظهرهم بمظهر المتعصبين قوميا ودينيا، ولن تمنع المسلمين المقيمين في سويسرا من ممارسة كل شعائر دينهم بحرية وعلنية. هذا مع العلم بأن الإنسان المسلم، أيا كان مكان إقامته، يستطيع، اليوم، بواسطة الأجهزة الحديثة من ساعات وراديوهات وهواتف، أن يعرف مواقيت الصلاة. ولا يحتاج إلى «من يناديه إلى الصلاة» من فوق مئذنة. ولقد كان بإمكان المرجعيات السويسرية تلافي هذه الأزمة لو أنها سلكت، بالتراضي والتفاهم، الطريق الذي سلكته البلدية الفرنسية منذ ربع قرن.. ولكن «ما دخلت السياسة شيئا إلا وأفسدته». كما قيل.

الاستفتاء على المآذن في سويسرا ليس بالأزمة أو المشكلة الوحيدة التي يجابهها المسلمون العائشون حياتهم في المجتمعات الغربية.. فهناك مسألة «البرقع» و«الحجاب» و«العدد المتزايد من الوافدين» و«التطرف» و«العنف» و«الإرهاب». (نيويورك، مدريد، لندن، هولندا). صحيح أن الأنظمة الديمقراطية الغربية والقوانين المدنية العلمانية، لا تحرم المسلمين الأوروبيين ـ لا سيما من يحملون منهم هوية البلد الذي يعيشون فيه ـ من أي من حقوقهم الشخصية والدينية والسياسية والاجتماعية. ولكن من حق الأوروبيين أن يتحسبوا أو يقلقوا أمام هذا الوجود البشري الإسلامي المتزايد حجما، يوما بعد يوم. لا سيما بعد أن تغلغلت الحركات الأصولية في أوساطه. وراحت تعلن وتصر، بشتى الوسائل، عن رفضها للاندماج في المجتمعات الغربية، وتمسكها بكل مظاهر عيشها ولباسها وتقاليدها الوطنية. وأحيانا تعاطفها مع الدعوات والحركات الأصولية المتطرفة. ولكن هل المنع والتقييد وتضييق الخناق هي الحلول الوحيدة المتوفرة أمام الدول والمجتمعات الغربية لحماية نفسها؟

إن الحكومات والمجتمعات الأوروبية لا ينقصها بعد النظر والحكمة في معالجة هذه المشكلات المثارة أو المستثارة، بين المسلمين المقيمين في الغرب والمجتمعات الغربية. ولكنها تحتاج إلى مساعدة ودعم الحكومات العربية والإسلامية، وإلى فتاوى واجتهادات كبار العلماء المسلمين في العالم، وإلى نصائح القياديين السياسيين والدينيين المسلمين المقيمين في الغرب، لكي تعالج الأزمات والمشكلات الكبيرة والصغيرة التي نشأت من جراء انتقال عشرات الملايين من المسلمين إلى الغرب. فهؤلاء قد يشكلون جسرا ثقافيا وسياسيا وحضاريا بين الشرق المسلم والغرب، مسيحيا كان أم علمانيا. كما قد يتحولون إلى قنبلة موقوتة في متناول أيدي الأصوليين الجهاديين والتنظيمات الإرهابية. أما المسلمون المقيمون في الغرب، فلن يحول اندماجهم في المجتمعات الغربية، دون ممارسة إيمانهم وصلواتهم وثقافتهم.

من غريب الصدف أن يسبق هذا الاستفتاء على المآذن في سويسرا، بأيام، المؤتمر العالمي حول المناخ وإنقاذ البيئة، في كوبنهاغن، الذي يرتفع بمعناه وغايته فوق كثير من الاعتبارات السابقة للعلاقات والتعاون ـ أو النزاع ـ بين سكان الأرض. ونعني تلازم مصير الشعوب أمام الأخطار الكبرى الحقيقية التي تهدد الأرض والطبيعة والمناخ والإنسان. فأمام هذه الاستحقاقات الكبرى. يبدو الاستفتاء السويسري، ومسألتا البرقع والحجاب، في الغرب، مسائل لا تستحق الضجة والجدل. ولا حتى الاهتمام..

ويكفي المسلمين والعرب ما لهم من المشكلات والأعداء، لكي لا يضيفوا إليها مشكلات وعداوات جديدة.

كما يكفي الحكومات والشعوب الغربية ما لديها من المشكلات لكي لا تضيف إليها مزيدا، مع العرب والمسلمين.