المطالب الأميركية الأربعة في أربيل.. و«الوعود الشفاهية»

TT

حضرت الدبلوماسية العسكرية الأميركية إلى مدينة أربيل وعقدت اجتماعا موسعا مع رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، وكما عُلم أو ذكر في وكالات الأنباء (ومصادر خاصة)، فإن الوفد الأميركي كان يحمل رسالة (بل توصيات!) شفهية للتحذير من جهة وتجديد التضامن من جهةٍ أخرى حول الأفعال وردودها بعد مارس (آذار) المقبل والانتخابات العراقية المرتقبة.

تمحور اجتماع دبلوماسية البنتاغون مع رئاسة الإقليم حول أربعة مطالب مختلفة لا تتوافق كليا والطموح الكردي القومي، بل تربط المستقبل القريب (والبعيد أيضا) بالالتزام الكردي القطعي للحفاظ على وحدة أراضي العراق والحد من تصعيد الأزمات السياسية بتفعيل لغة الحوار المتبادل وإيقاف توسع ثغرات الاختلافات السياسة والدستورية مع بغداد للحيلولة دون تحولها إلى عنفٍ موجه.

فيما يتعلق بالالتزام بالوحدة الوطنية، فإن للعراق جغرافية مشتركة بين قوميتين شريكتين في الحكم والسلطة والنفط، جغرافية لم تُرسم حدودها دستوريا بين هذين الشريكين، وقد شاهد التاريخ مواجهات دموية بين السعي للحصول على الحقوق القومية من جانب الكرد وتهرب حكومات بغداد المتعاقبة من الاعتراف بالدرجة الأولى بالقومية الشريكة الثانية، ولم تكن دبلوماسية البيت الأبيض ولا حتى البنتاغون حاضرتين بالأمس القريب لمنع القتل الجماعي من قبل النظام البائد ورفع مكانة الكرد من درجات المواطنة الدُنيا إلى الدرجة اللائقة بمقام القومية الشريكة في الجغرافيات المشتركة.

وصّلت الإدارة الأميركية رسالتها الشفهية من خلال وزير دفاعها بأن العراق سيبقي على هذا الرسم الجغرافي وأن المقاطعة لأي عملية سياسية في العراق ومن ضمنها المشاركة في الانتخابات تُعدُّ انتحارا زمنيا للوجود الكردي في بغداد، وذلك لأن البيت الأبيض لا يرى سوى الوحدة الوطنية ولا يستطيع أن يشجع أي محاولة لاستقطاع الجزء الشمالي من هذه الجغرافيا المرسومة في معاهدة سايكس بيكو. في المقابل كانت لأربيل كلمتها أيضا في رسم السياسات المستقبلية في العراق القادم، حيث كان للحضور الكردي في بغداد دور أساسي لإعادة بناء العراق بعدما هُدم كل شيء وتساوت بغداد المركزية بالمستعمرة الرذيلة إبان الإعلان عن سلطة الائتلاف الاحتلالي.

كلمة أربيل تضمنت المطالبة الملحّة بالضمانات السياسية لعدم تكرار سيناريوهات الماضي الدموي، وبأن تبقى أسس المشاركة في السلطة السياسية في العراق على مبدأ التوافق السياسي، الأمر الذي يعطي للكرد اطمئنانا سياسيا وراحة بال بأن بغداد لا تستطيع أن ترسم سياساتها الخارجية وحتى النفطية وراء الكواليس وبغياب العيون الكردية.

مرونة أربيل في نظر أميركا تصب في تأمين أماكن الاستخراج من الفوضى وانعدام الاستقرار، مما يعني أن البيت الأبيض يرى المشاركة القوية للكرد في سياسات بغداد أمرا (أو واقعا) لا يمكن التهرب منه، كون تغذية السوق النفطية العالمية من خلال أنابيب العراق تتطلب رأيا كرديا أيضا لأن عُمق الاحتياطات باتت الآن تخضع لسلطة الإقليم الكردستاني السياسية والعسكرية.

مشاركة الكرد وبالمرونة المطلوبة وبتوحيد سياساتها الإقليمية بشؤون المركز تنعكس بالطبع على موقف بغداد من أربيل والأرضيات التي تهيئ العلاقات، خاصة قدوم بغداد على تنفيذ البنود الدستورية الموضوعة لحل الأزمات العالقة في مدينة كركوك وإعادة الواقع السكاني وفق خارطة الحلول الموضوعة في المادة 140 من الدستور العراقي.

تأتي التوصية الثالثة في دبلوماسية غيتس بأن تصاغ المطالب في إطارها المقبول وعدم فرض إرادة أحادية الجانب على طاولة المفاوضات المستقبلية التي ستشهدها الساحة العراقية بعد الانتخابات المرتقبة في مارس (آذار) 2010.

يبدو أن أميركا حللت مطالب أربيل الدستورية السابقة بالمبالغة، وقد لوحت وباللغة الدبلوماسية بأنه ربما يستفيد الإرهابيون من هذا الإصرار الكردي على قضاياهم الوطنية، لأن أميركا، وكما عُلم، عملت على إقناع الكرد (حتى لو كان بالإكراه) بأن تبدي مرونة وتقدم تنازلات ملموسة بما يخص قانون الانتخابات العراقية التي تمت المصادقة عليه، في حين أن المادة السادسة من القانون مبنية على الشك المسبق لأي إجراء في مدينة كركوك، وأن سجلات الناخبين سوف تخضع لإجراءات التدقيق، حتى أن العائدين ضمن عملية التطبيع في المادة رقم 140 سوف يشككون في أمرهم.

الموقف الأميركي يأتي دعما للمطالب الدستورية للكرد في إطار علاقة أربيل بالمركز وقانونية امتلاكها حرسا للإقليم ضمن التشكيلة الدفاعية للعراق وتنفيذ خارطة التطبيع للمناطق المتنازع عليها، في حين تطالب واشنطن من جانب آخر وكمغازلة سياسية بإجراء التعديلات الدستورية التي تشمل المادة 140 أيضا.

المطلب الأخير لغيتس والسفير الأميركي في بغداد كان بمثابة نصيحة أخوية تكمن في التزام الكرد بالمضي مع بغداد على الطريق السلمي وتفعيل لغة الحوار والوصول إلى الصيغ التوافقية التي ترضي الجميع وتقنع حكومة المركز بأن الدور الكردي بات ضمن الحد المعقول للسياسة المركزية.

يأتي هذا الطلب في حين خاضت أربيل أشواطا من الحوار المتبادل المرن، بل وقدمت تنازلات كبيرة من دون أن تأخذ حتى رأي شارعها لإيجاد الصيغة الأمثل لتفعيل وإدامة اللغة الحوارية المنسجمة حيال القضايا الخلافية وخاصة كركوك والمناطق المستقطعة الأخرى من كردستان.

لا شك أن حوار أربيل وبغداد يمر من خلال الفلترات الأميركية، وإيجاد الحلول أيضا لا يمكن أن يأخذ مساره التطبيقي إلاّ إذا وجدت مُباركة من البيت الأبيض. لكن رغم ذلك وتجاوبا لضغط الشارع الكردي وتقليل الاستياء العام من الملفات العالقة بين إقليم كردستان وحكومة العراق الاتحادية، حاول المحاورون الكرد أن ينشطوا كثيرا من أوراقهم السياسية التفاوضية مع بغداد من دون أن يجدوا الدوافع الجادة من الأحزاب الحاكمة والمرونة المماثلة لعبور هذا المستنقع وإيصال العراق إلى ضفته المستقرة.

* كاتب سياسي من كردستان العراق