أيام فاتت

TT

هناك مأساة خفية ترتبت على وعد بلفور قلما التفت إليها أحد، وهي مأساة يهود العراق. كانوا حتى الأربعينات يعيشون في بحبوحة وانسجام تام مع البلد وأهله. أحبوا العراق بشكل رهيب، فهو وطنهم منذ زمن البابليين وفيه وضعوا أسس ديانتهم وكتبوا توراتهم. تمثل ذلك الحب في الشاعر أنور شاؤول. إنه يهودي في النسب ومسلم بالرضاعة. ولدته أمه حنة في مدينة الحلة، ولكنها ماتت بعد أشهر قليلة. لم تتردد جارتها وضحة في إرضاع هذا الطفل اليهودي. هكذا كنا في أيام الخير. لا فرقة بين الطوائف والأديان. لم تحاول وضحة فرض ديانتها على هذا الرضيع، فتراثها العراقي يقول: «كل من على دينه، الله يعينه». تركته يتعلم وينشأ على دينه، مع ابنها المسلم وأخيه في الرضاعة عبد الهادي.

توجّه أنور لقرض الشعر وقال قصائد كثيرة عبر فيها عن حبه للعراق:

بلادٌ حَبَتْها الطبيعةُ أَسمى

جمالٍ يَهِيمُ به مَن فَطنْ

فدجلةُ حَنَّت لنهر الفراتِ

كذاك الفراتُ لدجلةَ حَنْ

أُحِبُّ بلادي ويا ليت شعري

إذا لم أُحِبَّ بلادي فَمَنْ؟

تعقدت وتجرحت أحوال اليهود بعد حرب 1948 حتى عمدت الحكومة إلى إعطائهم حق إسقاط جنسيتهم والهجرة إلى إسرائيل. استجاب أكثرهم لذلك وخرجوا، بيد أن تعلق أنور شاؤول بالعراق منعه من ذلك. بقي حتى السبعينات عندما سلط صدام حسين غضبه عليهم، شنق منهم من شنق وسجن ونكل بمن بقي. كتبت في حينها في صحيفة «التايمس» وقلت هذه مقدمة لتسليط إرهابه على كل العراقيين. اتهمني الوطنجية بالخيانة!

حوّل صدام حسين قصر الرحاب الملكي إلى معتقل للتعذيب والتنكيل والتصفية فسمي بقصر النهاية.

لأي قصدٍ وغاية

سمّوك قصر النهاية؟

هل انتهى بك عهدٌ

أم كنت أنت البداية؟

في كل يوم حديثٌ

وكل يوم حكاية

أمَا لها مِن ختامٍ

فصولُ هذي الرواية؟

قال أنور شاؤول وبدأ يعد رحاله للخروج قبل أن يصبح ضحية رخيصة أخرى لصدام. وفي غربته ظل يبث هموم شوقه لبغداد:

أبغداد مالك لا تذكرين

فتاك المدله ذاك الأمين

فتاك المحب

فتاك الحبيب

فتى الأغنيات والأمنيات

فتى القهقهات والأوهات

فتاك الأمين، البعيد القريب