أسير الإطار العام

TT

جاء قرار الرئيس الأميركي باراك أوباما بتصعيد الحرب في أفغانستان استجابة لمتطلبات الضرورة الاستراتيجية على الصعيد الخارجي والتوازن السياسي على الصعيد الداخلي. ومن المنطقي أن يأمل الآن في أن يتمكن قراره بتصعيد الحرب من كسب بعض الوقت حتى تتحسن الأوضاع، خاصة في باكستان، المسرح الحيوي للحرب.

إلا أنه حتى إرسال 30.000 جندي أميركي إضافي إلى أفغانستان لا يوفر للرئيس سلطة تغيير الأوضاع هناك بمفرده، فما زال أوباما حبيس الإطار العام، وهو الأمر الذي أهمله عند شرحه إستراتيجيته المنقحة تجاه أفغانستان الأسبوع الماضي. حاليا، يخوض أوباما قتالا ضد أعداء غير مرئيين يتمثلون في الزمن والمسافة، علاوة على متطرفي تنظيم «القاعدة». وتكشف استطلاعات الرأي انحسار التأييد الشعبي للحرب، الأمر الذي يعكس تراجع حدة ذكرى هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 من ذاكرة الأميركيين. أعتقد أن الكثيرين منا يشعرون بهذا الأمر، رغم مقاومتنا إياه. صباح أحد أيام نوفمبر (تشرين الثاني) القريبة، كنت أتنزه على شاطئ نهر بوتوماك، وطرأت على ذهني فكرة أن السماء كانت صافية بمثل هذه الصورة في 11 سبتمبر (أيلول). وتساءلت فيما بيني حول ما إذا كنا سنواجه حدثا دمويا جديدا في يوم من الأيام؟ ثم تذكرت أنني كنت أسير في الشارع لمدة 10 دقائق قبل وقوع الهجمات المفزعة. على مدار فترة طويلة، ظل النظر للوهلة الأولى إلى السماء الصافية يثير بداخلي على الفور ذكرى أحداث ذلك اليوم التي بدلت شكل باقي العقد. الآن، بدأ تذكر هذا اليوم يستغرق مني بعض الوقت، وأصبح نتاجا للتفكير المتمعن، وليس رد فعل تلقائيا. للأسف، أعتقد أننا تكيفنا حتى مع هذا الحادث المؤلم.

ذكر أينشتين من قبل أن شطر الذرة بدل كل شيء ما عدا أسلوب تفكيرنا. وربما ينطبق الأمر ذاته على هجمات 11 سبتمبر (أيلول). في إطار خطابه، اعترف الرئيس بالتحدي الذي يفرضه الزمن أمام سياساته، قائلا: «من السهل نسيان أنه عندما بدأت الحرب، كانت صفوفنا متحدة، ومرتبطين ببعضنا البعض عبر الذكرى الحية للهجوم البشع.. أرفض فكرة أنه ليس بمقدورنا إحياء هذه الوحدة مجددا».

إلا أن خطابه لم يفلح في توحيد الصفوف على الفور، حيث سرعان ما توصل أعضاء الكونغرس إلى نقاط يمكنهم الاختلاف بشأنها، واتخاذ مسافة بعيدا عن قرار الرئيس تصعيد الحرب، سعيا لحماية أنفسهم، وذلك رغم عدم إقدامهم على مهاجمة أوباما. سياسيا، تمكن أوباما من الترويج لاستراتيجية جديدة جديرة بالتجريب، لبعض الوقت.

كما تلقى أوباما دعما متواضعا من «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، جاء في مقدمته إسهام إيطاليا بـ1000 جندي إضافي وعمليات نشر قوات بولندية وبريطانية جديدة. لكن ألمانيا وقفت جامدة من دون حراك، وأعلنت فرنسا أنه ليس بإمكانها توفير مزيد من قواتها التي تعاني بالفعل من الانتشار على مساحات مفرطة في الاتساع. أما الأمر المسكوت عنه فهو أن الرئيس نيكولا ساركوزي لا يميل لتقديم أي خدمات لأوباما بسبب سلسلة من مؤشرات الصد، غير الموفقة، من قبل الرئيس الأميركي تجاه نظيره الفرنسي الذي انحرف عن نهجه المعتاد وعمد إلى معاونة أوباما خلال حملته عام 2008.

الأهم من ذلك أن ساركوزي يساوره قلق متزايد إزاء «أمركة» الحرب في أفغانستان. ومن شأن الفوج الجديد من الجنود الأميركيين زيادة مشكلات القيادة والسيطرة أمام الوحدات الأجنبية الأخرى وجعلها أكثر اعتمادا على التكتيكات والاستراتيجية الأميركية.

ويمثل هذا الجزء الذي لم يتناوله أوباما مباشرة من استراتيجيته الجديدة. ومن بين الأخرى الأهم التي أغفل أوباما ذكرها مساء الثلاثاء التصعيد المدني الذي من المفترض أن يرافق التصعيد العسكري لتوفير ظروف معيشية أفضل وحكم أرشد، وهي نقطة لم يناقشها أوباما بعمق.

أعتقد أن هذه النقطة أغفلت لأنه لم يتم التوصل بعد إلى اتفاق بين مستشاري الرئيس أو أعضاء «الناتو» حول الصورة التي ينبغي بها إعادة تنظيم المساعدات المالية والدعم الفني الموجه لحكومة الرئيس حامد كرزاي، والمفتقر حاليا إلى الفاعلية.

يذكر أنه تم إحراز تقدم على صعيد إنشاء وكالة دولية رقابية في كابل لمحاربة الفساد. إلا أنه لا تزال مقترحات الإدارة بضرورة أن تتولى سلطة واحدة بقيادة واشنطن مسؤولية البرامج المدنية في أفغانستان والتنسيق بينها، بما في ذلك برامج الأمم المتحدة، تواجه معارضة قوية من أوروبا. وأخيرا، فشلت الاستراتيجية الجديدة لأوباما في التأكيد على أن الإطار العام الذي وقعت خلاله هجمات 11 سبتمبر (أيلول) لا يزال قائما، ويقيد من حرية تصرفه، حتى وإن كانت قوة ذكرى هذا اليوم تتلاشى.

إنه إطار يتعلق بتطرف بعض المسلمين الذي يجري تعزيزه ليس في أفغانستان وباكستان فحسب، وإنما أيضا في السعودية واليمن ومصر ودول أخرى ترى الولايات المتحدة أنه من المستحيل غزوها أو توجيه ضربات إليها. لقد فرض علينا محاربة «القاعدة» داخل أفغانستان بقوة أكبر وأكبر لعجزنا عن مقاتلتها مباشرة في ميادين قتال أخرى. مرحبا إذن بمعضلة أوباما الكبرى.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»