المخاطر الحقيقية في أفغانستان

TT

من المثير أن نجد أن خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي ألقاه في «ويست بوينت» لم يتطرق قط إلى تناول المخاطر طويلة الأمد أمام الولايات المتحدة في كل من أفغانستان وباكستان. في الواقع، هناك ثلاث قضايا جوهرية ينبغي طرحها على النقاش العام بالتزامن مع إعلان أوباما استراتيجيته الجديدة.

أولها: مكانة الولايات المتحدة على الساحة العالمية في القرن الـ21. المؤكد أن هذه الجهود الأميركية الأخيرة ستخضع لتفحص وثيق من قبل المسؤولين بشتى الدول، من موسكو على بكين، ومن العناصر الثورية في إيران حتى قراصنة الصومال، بهدف تقييم تصرفاتهم وردود أفعالهم وتفاعلاتهم مع واشنطن بناء على النتيجة التي تتمخض عنها جهود أوباما.

ومن شأن إخفاق القوة العسكرية العظمى عالميا، مدعومة بأكبر تحالف عسكري، في اجتثاث «طالبان» ـ وهي جماعة تفتقر إلى قوة جوية وفيالق مدرعة ومدفعية بعيدة المدى واستخبارات تعتمد على الأقمار الصناعية وداعم أجنبي قوي ـ تسليط الأضواء بقوة على حدود القوة الأميركية. وقد تأتي تداعيات ذلك على درجة من الفداحة تتضاءل بجانبها الهزيمة في فيتنام، حتى وإن جاءت الخسائر في الأرواح أقل.

الواضح أن حقبة العالم أحادي القطب انتهت فعليا، لكن الإخفاق الأميركي في أفغانستان وباكستان سيكتب نهايتها الرسمية، مثلما حدث مع حقبة العالم ذي القطبين عندما انسحب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان. في الواقع يمكن النظر إلى الفترة ما بين المشاركة في فيتنام وأفغانستان ـ بما فيها من انسحاب أمام متطرفي حزب الله في لبنان ولوردات الحرب في الصومال ـ باعتبارها بداية انحسار القوة الأميركية.

ولم يقتصر الأمر على القوة «العسكرية» فحسب، وإنما من المفترض أن القوة الأميركية في جوهرها تحمل طابعا أخلاقيا يدور حول فكرة استخدام القوة في مواجهة أو احتواء أو منع الأنظمة الفاشستية أو الاستبدادية أو الظالمة من الإقدام على أعمال عدوان أو قمع أو ظلم غير مقبولة. الملاحظ أن القوة الأميركية أسيء استغلالها، ورغم أنه ليس هناك طرف يتميز بالنقاء الكامل، فإن قليلا فقط من الدول الأخرى أبدت استعدادها أو قدرتها على الاضطلاع بهذا الدور.

علاوة على ذلك، يتهدد الخطر مكانة واشنطن داخل العالم الإسلامي. المعروف أن أحد القواعد التي تحكم مسار التاريخ تقوم على أن المنتصر يحظى بالنفوذ، بينما يخسره المهزوم. ويقوم المنتصر بفرض معاييره الخاصة، وتكتسب أفكاره مزيدا من الاهتمام، ويفوز قادته بسلطة أكبر.

وعليه فإن نتيجة المواجهة بين الولايات المتحدة وأفرع متنوعة من «القاعدة» و«طالبان» تحمل أهمية كبرى لمستقبل العالم الإسلامي، فبعد قرابة عقد من هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، يقف العالم المسلم عند مفترق طرق. وتكشف استطلاعات الرأي أن مجتمعات مسلمة بالغة الأهمية تبدي رفضا متزايدا للتطرف ـ حتى وإن ظلت توجهات المشاركين في الاستطلاع سلبية تجاه الولايات المتحدة. الآن، تدرك أعداد غفيرة من المسلمين أن فكر أسامة بن لادن لا يوفر حلولا للتحديات اليومية التي يجابهونها مثل التعليم والإسكان والوظائف والرعاية الصحية. ويسود شعور بالسأم تجاه «القاعدة» التي أوشكت على التحول إلى ماضٍ لدى البعض. والآن يدور البحث حول توجه جديد.

في الوقت الحاضر تعتمد الاستراتيجية الأميركية في جنوب آسيا، ليس على إنزال الهزيمة بالقوى المتورطة في هجمات 11 سبتمبر فحسب، وإنما أيضا السعي للمساعدة في بناء بدائل للآيديولوجيات والحكم المتطرف. ويتميز الفوز على هذه الجبهة في باكستان وأفغانستان بذات الدرجة من الأهمية ـ وربما بصعوبة أكبر ـ عن الحملة العسكرية، خصوصا أنه من المحتمل أن يتمتع المنتصر بنفوذ أكبر بين مسلمي العالم البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة. ولا يحمل «النصر» هنا أهمية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة بقدر ما يحملها للمبادئ، مثل إقرار حكومات تخضع لقدر أكبر من المساءلة والتعليم الحديث والفرص الاقتصادية من وراء صور التجارة المشروعة.

وأخيرا، يتهدد الخطر أيضا المصالح الأميركية في المنطقة بصورة واسعة، خصوصا على جبهتين، فمن ناحية، ستترك استراتيجية أوباما تأثيرا عميقا على الهند، أكبر ديمقراطية في العالم. المعروف أن التوترات بين الهند وباكستان دفعت العالم بدرجة أقوى إلى حافة الحرب النووية عن أي صراع آخر منذ الحرب العالمية الثانية، ولا يزال هذا الأمر ممكنا، نظرا لإخفاق إسلام آباد في احتواء المتطرفين المسؤولين عن المجازر الإرهابية في الهند، بما في ذلك هجمات مومباي العام الماضي. من شأن الإخفاق الأميركي في مساعدة باكستان النووية في توسيع نطاق أو تحويل محور تركيزها العسكري من الهند باتجاه التهديد الأكثر إلحاحا الصادر عن العناصر المتطرفة بداخلها السماح بتعمق مثل هذه التوترات.

ومن ناحية أخرى تثير إيران، التي تشترك في حدودها مع باكستان وأفغانستان، القلق، حيث تحولت أفغانستان بالنسبة لإيران إلى ما كان عليه العراق في وقت مضى: ميدان قتال بالوكالة ضد الولايات المتحدة. كانت إيران فيما مضى خصما لأفغانستان، وتشير ادعاءات إلى أن إيران التي يهيمن عليها الشيعة وفّرت أسلحة ومتفجرات لـ«طالبان» السنّية، مثلما فعلت مع الميليشيات الشيعية في العراق، انطلاقا من مبدأ عدوّ عدوّي صديقي، على الأقل في الوقت الراهن.

الواضح أن طهران استغلت (وغالبا أججت) مشكلات في أعقاب الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق. في خضم ذلك تحولت إيران إلى قوة إقليمية عظمى لا ينافسها سوى إسرائيل، ومن شأن الإخفاقات الأميركية في أفغانستان وباكستان تعزيز مكانة إيران بدرجة أكبر في وقت تشن حكومتها الاستبدادية على نحو متزايد إجراءات صارمة ضد حركة معارضة شرعية. من جانبنا، يساورنا القلق حيال التكاليف البشرية في الأطراف كافة، والاستنزاف الذي تعانيه خزانتنا الوطنية والقوات المسلحة ـ ناهيك عما يتكبده الشعب الأفغاني ـ وطول أمد هذا الصراع. وتراودنا شكوك حول إمكانية نجاح مبادرة أوباما المتميزة بوتيرة سريعة. إلا أنه مع تقييمنا للخطوات الأميركية على مدار الشهور الـ18 المقبلة، ينبغي أن نتذكر أن النتيجة النهائية ستحدد أهداف أميركا ومكانتها فيما وراء جنوب آسيا لسنوات مقبلة.

*زميلة بارزة في المعهد الأميركي للسلام، ومؤلفة كتاب «أحلام وظلال: مستقبل الشرق الأوسط»، وعملت سابقا مراسلة للشؤون الدبلوماسية لدى «واشنطن بوست»، وقدمت تغطية للقضايا الأفغانية منذ الثمانينات.

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»