مأساة اسمها لعبة «البوكر العربية»

TT

يتبين أكيدا، أنك لا تستطيع أن تشتري ماركة مسجلة لجائزة أدبية كما تشتري وكالة «ماكدونالد» أو «كنتاكي» للوجبات السريعة. التفاؤل الذي أبداه الأدباء بعد الإعلان عن إطلاق جائزة «البوكر للرواية العربية»، استنساخا لشقيقتها الإنجليزية الشهيرة التي تحمل الاسم نفسه وتتمتع بمصداقية كبيرة، تحول مع الوقت إلى خيبة أمل علقمية. فإما أن القيمين الإنجليز على الجائزة والذين يديرونها من بعيد يستخفون بمهمتهم ويستصغرون عقولنا، أو أن الأعضاء العرب في الجائزة هم من الفساد، بحيث استطاعوا أن يقنعوا البريطانيين بجدوى أساليبهم التشاطرية الملتوية. وإلا فلماذا فقط الجوائز البريطانية الأصل هي وحدها التي يستقيل أعضاء لجانها التحكيمية ويحرد مشاركون فيها، وتثور حولها الشكوك والحكايات البوليسية.

هناك مثل يقول إن «لا دخان بلا نار». ومنذ انطلقت جائزة البوكر، والأدباء العرب يتناقلون ويكتبون أخبار دسائس ومؤامرات تدور في كواليسها، لم نسمع عن مثيل لها، صاحب مسار أي جائزة عربية أخرى. وقد لا يكون كل ما يكتب أو يقال صحيحا، أو تكون أهمية الجائزة ـ كما يقول البعض ـ هي التي استجرت الصخب الغائم. لكن من المحال أن يصدق عاقل أن كل هذا الكم من الاتهامات والحكايات التآمرية، مجرد اختلاقات باطلة لا أصل لها من الصحة. فقد تم تداول وقائع وأسماء، ونشرت ردود ودخل على الخط كتاب معروفون مثل جمال الغيطاني وجابر عصفور. ولأسباب لا يعلمها إلا خبراء الكواليس، تداخل أعضاء في هذه الجائزة مع أعضاء في جائزة ذات أصول بريطانية، هي الأخرى، تدعى «بيروت 39» نالها ما نال البوكر من سوء السمعة، وهزال المصداقية. وهنا كانت أسماء كبيرة حاضرة، فانسحب من لجنة التحكيم علاء الأسواني وإلياس خوري وهدى بركات. وما زالت الجائزة ماضية كأنما لم يسجل ثلاثة أدباء كبار اعتراضا أو انسحابا. والأغرب من هذا أن يقبل ناقد في مكانة الدكتور جابر عصفور رئاسة اللجنة التحكيمية لـ«بيروت 39» رغم كل ما أصابها من سهام هلهلت جسدها.

صحيح أن العرب يؤمنون بالمؤامرة حد التآمر على أنفسهم وعلى جوائزهم أو جوائز بريطانيا ومعها أوروبا كلها، لكنهم خائبون في الاختراعات ونشك في أن أخيلتهم بمقدورها أن تحيك هذا السيل من التفاصيل الدقيقة، التي تصف لك ما يجري في الغرف المغلقة، والجلسات الحميمة. عزاؤنا أن جائزة «بيروت 39» ستنتهي مفاعليها بدورة واحدة يتيمة، ونرتاح من صداعها، في ما قد تعمّر البوكر، وتسوقنا إلى المزيد من الدسّ والضغينة.

فالخطورة لا تتأتى فقط من سوء إدارة جائزة، بل من كل ما تجره وراءها من ذيول. فالصحف العربية نشرت منذ حوالي الشهر ـ أي منذ أعلن عن اللائحة الطويلة الفائزة بالبوكر ـ عشرات المقالات حول خطط وصفقات تدور بين أعضاء لجنة التحكيم ومرشحين للفوز، ليس بينها مقال واحد يعنى بنقد جاد مقارن بين هذه الروايات، ويظهر بالاستشهادات أن هذه الرواية أحق من تلك بالفوز أو أن هذا النص كان يجب أن يستبعد لقصوره عن بلوغ المستوى المطلوب. وبالتالي انحرف الكلام من المتن إلى الهامش، ومن الجوهري إلى الثرثرة الفارغة. وإذا صدقنا ما قالته الناقدة شيرين أبو النجا بعد استقالتها من لجنة تحكيم الجائزة، فإن ما يدور داخل اللجنة يبدو أنه لا يختلف كثيرا عما يكتب في الصحف اليومية، من حيث بقاؤه على السطح.

ومن المؤسف أن يضطر الصحافي في المجال الثقافي، لأن ينجرّ بدوره لمتابعة خيوط المغامرات التآمرية وتغطية النمائم، بدل أن ينصرف إلى قراءة الكتب المرشحة وتقديمها للقارئ. فالصحافة لا تملك في أحسن حالاتها إلا أن تكون انعكاسا صادقا لما يجري على الأرض. أما ولأن الساحة هذر وضجيج، فإن القارئ يريد أن يعرف ويفهم أسباب الصخب الحاصل ودوافعه، ومن هم أبطاله، وما يجري في الخفاء. وهي معارك تافهة، لا تعود بالنفع على قارئ أو صحافي أو حتى أديب متورط في اللعبة. والجميع في مغطس الفساد المستشري خاسرون في النهاية.

ليس الخوف من أن ينال الخمسين ألف دولار، المخصصة للفائز النهائي بالجائزة، أديب لا يستحقها ـ فهذا أمره يهون ـ وإنما أن تتحول البوكر إلى مسلسل تنكشف مع مرور حلقاته عورات وفضائح لا تخص السياسيين هذه المرة وإنما صفوة المجتمع العربي ونخبته «المفكرة». أوليس الحال جديرا بالتعمق والتأمل. إذا كانت «الصفوة» قد انحدرت إلى هذا الدرك، فما الذي تركته لمن تسميهم «الرعاع»؟ أكثر من ذلك، فإن هذه الجائزة مخصصة للروائيين أي أولئك الذي يعتقد أن لهم القدرة على الكشف والاستقراء، ومن المفترض أنهم يتمتعون بخيال يقيهم الوقوع في «التهلكة» وبراثن «المفسدة».

أرادت مؤسسة «الإمارات» بتمويلها الجائزة أن تنهض بالرواية العربية وأن تكتسب صورتها إشراقة ثقافية. لكن النوايا الحسنة، لا تعطي بالضرورة ثمارا شهية ما لم يكن هناك من يدير اللعبة بحنكة ودراية. لقد تكلم ياسر سليمان، أحد أمناء مجلس البوكر، أثناء المؤتمر الصحافي للجائزة الذي عقد في بيروت منذ أيام قائلا إنه سئم الكلام على الفساد العربي، وأمراض المثقفين العرب، وما على القيمين على الجائزة إلا أن يعملوا دون أن يلتفتوا لما يقال ويتردد. وإذا كان الناس ينتقدون الجائزة إلى هذا الحد ولا يحبونها، فلماذا يتقدمون لها ويستشرسون للحصول عليها؟

ولعل هذا أبلغ ما قيل في البوكر العربية لغاية اللحظة، لأن «دود الخل منه وفيه»، والمناخ الثقافي العربي يأكله الدود، ومن يريد أن ينأى بنفسه من مثقفينا وأدبائنا الأكارم، ما عليه سوى أن يذهب إلى بيته أو مكتبه، ويعكف على عمله شغوفا محبا، بدل أن يحول أعصابه وعقله وقودا لحفنة من الدولارات والأمجاد المزيفة، بانتظار أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.