دور الشطر الثاني من وعد بلفور

TT

لو كانت الواقعية الدبلوماسية ـ وليس التشاطر ـ منطلق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في التعاطي مع الأحداث.. لكان باشر التعامل مع حل «الدولتين» (الفلسطينية والإسرائيلية) عقب أول لقاء له مع الرئيس الأميركي باراك أوباما.

ولو كان تسلسل الأحداث مؤشر نتنياهو «لفن الممكن» في الدبلوماسية الدولية لاسترشد بخلفية تعاطي المجتمع الدولي مع وعد بلفور، بعد الحرب العالمية الثانية، في تقييمه لفرص قيام الدولة الفلسطينية اليوم.

أي مقارنة سريعة بين المناخ الدولي الذي سهل على الحركة الصهيونية تحقيق «وعد بلفور» (المحارق النازية لليهود)، والظروف المواكبة حاليا لحل «الدولتين» (المجازر الإسرائيلية للفلسطينيين)، توحي بأن الدولة الفلسطينية لن يتأخر قيامها عن نهاية ولاية أوباما الأولى.. أو الثانية في أسوأ الحالات. قيل في وعد بلفور ما لم يقله مالك في الخمر. ولكن الوعد كان رسالة ذات شقين وجهها وزير الخارجية البريطاني، آرثر جيمس بلفور، عام 1917، إلى اللورد ليونيل وولتر روتشيلد، زعيم الحركة الصهيونية آنذاك، تعهد في شقها الأول بأن تعمل الحكومة البريطانية «من أجل تحقيق هدف تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين»..وفي شقها الثاني (رغم التناقض الصارخ بين التعهدين) بأن «لا تقوم بريطانيا بعمل أي شيء من شأنه أن يضر بمصالح وحقوق المجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين».

بعد ستة عقود من قيام الدولة اليهودية في فلسطين، جاء دور «المجتمعات غير اليهودية» في فلسطين لتحصيل حقوقها. ومن الواضح أن النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يتخذ باطراد منحى إنسانيا أكثر منه سياسيا يؤشر بأن المرحلة التي يمر بها الآن هي مرحلة تجاوز الشق الأول من وعد بلفور إلى شقه الثاني. والمؤشر الأبرز على ذلك يمكن تلمسه من التحول المستجد على مواقف الدول الأوروبية والإدارة الأميركية لجهة اعتبار أي تسوية «مقبولة» للنزاع تستوجب إعطاء «المجتمعات غير اليهودية» في فلسطين حقوقها واعتبار «الدولة الفلسطينية» الإطار الأنسب لحفظ هذه الحقوق.

العد العكسي لقيام الدولة الفلسطينية، الذي بدأ مع تلك «الرؤية الإلهية» التي تجلت للرئيس الأميركي السابق، جورج بوش تحولت مع الزمن إلى إطار حل مطروح دوليا للنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي.

نتنياهو نفسه قبل علنا، في يونيو (حزيران) الماضي، بفكرة الدولة الفلسطينية رغم الضبابية التي حاول إضفاءها على هذا القبول. ومن موقعه كرئيس للحكومة، لم يعد خافيا عليه أن عصر إسرائيل الذهبي انقضى، فالأيام التي كانت «تدوزن» فيها إسرائيل الرأي العام العالمي على «نوتتها» لم تعد قائمة، وما أظهرته من تعنت في رفضها تنفيذ القرارات الدولية، ومن إفراط في استعمال القوة في حربها على الفلسطينيين جعلاها أقرب إلى الدولة المستعمرة منها إلى الوطن القومي لليهود.

وإذا كانت إسرائيل حققت مكاسب أمنية ثمينة من اتفاقيتي كامب ديفيد ووادي عربة ـ اللتين حيّدتا جبهتين عسكريتين في مواجهتها ـ فقد كان للاتفاقيتين حصيلة سياسية سلبية تمثلت في زوال صورة «إسرائيل الدولة المحاصرة والمستضعفة» في بحر معاد لها في الشرق الأوسط، وهي صورة استثمرتها على مدى عقود في تحريك مشاعر تعاطف الغربيين مع من يعتبرونه الطرف الأضعف ((Underdog في أي مواجهة مسلحة. وبدورها لم تقصر إسرائيل في الإجهاز على ما تبقى من هذه الصورة في حروبها الشرسة على الفلسطينيين، الأمر الذي وثقه، دوليا، تقرير غولدستون.

وحتى القرار الدولي 242 الذي استغلت إسرائيل التفاوت اللغوي بين صيغتيه الإنجليزية والفرنسية لرفض الانسحاب من «كل» الأراضي الفلسطينية المحتلة، حسم مشروع قرار الرئاسة السويدية للاتحاد الأوروبي بعده السياسي ـ الجغرافي في دعوته إلى قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.. وتأكد هذا الحسم في إحجام إدارة أوباما عن «استنكار» الدعوة السويدية وفي إعلان الرئيس الأميركي أنه لا يعتبر المستوطنات الإسرائيلية، داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، «شرعية». وعلى صعيد «داخلي»، يعتبر اختراق منظمة «جاي ستريت» الأميركية اليهودية «لأحادية» اللوبي الصهيوني في واشنطن وتبنيها مواقف أقرب إلى رؤية أوباما لموضوع المستوطنات الإسرائيلية مؤشرا على تحول مؤثر في قناعات الليبراليين اليهود يصعب الاستخفاف بمغزاه المستقبلي.