تحطيم الصُّوَر بين بيزنطة وإيران

TT

ما استطاع المؤرخون الكَنَسيون حتّى اليوم، تعليلَ إقدام الإمبراطور البيزنطي ليو الإيسوري نحو عام 730م على تحطيم الصُّوَر والإيقونات في سائر كنائس الإمبراطورية البيزنطية. وقد سرى أمر الإمبراطور على الكنائس الأرثوذكسية في الديار الإسلامية أيضا. ورغم أن كثيرين من رجالات الكنيسة ـ وبينهم يوحنا الدمشقي وتيودور أبو قُرّة ـ عارضوا ذلك، فإن الحملة ضد الصُّوَر استمرت لقرابة القرن من الزمان. وما كانت الإمبراطورية البيزنطية مملكة دينية تماما، لكن الإمبراطور صار رأس الكنيسة منذ اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية نحو العام 325م، ومع أن التاريخ قضى لغير صالح ميول الإمبراطور، وازدادت قداسة الإيقونات والصُّوَر لدى الأرثوذكس بعد نهاية حُكم الأُسرة الإيسورية، فإن تلك المسألة ما تزال تُثير تساؤلات المؤرخين وبعض رجالات الكنيسة: فهل كان ذلك لأن الإمبراطور ومُشايعيه من رجال الدين كانوا يرون في الصُّوَر والإيقونات والتماثيل بالمعابد انتهاكا للمقدَّس، أم أن الإمبراطور أراد تثبيت سلطته في المجال الديني أيضا، شأن ما فعله المأمون العباسي في ما بعد في مسألة القول بخلق القرآن في دار الإسلام؟! هذه التقدمة أردْت من ورائها متابعة ومقارنة ما يحدث في الجمهورية الإسلامية الإيرانية من مشاحنات على أثر إحراق صورة للإمام الخميني في تظاهرات يوم الطالب قبل ثلاثة أسابيع. المحافظون يقولون إن تلك الواقعة ارتكبها الإصلاحيون، والإصلاحيون يقولون إنها واقعة مصطنَعة للاستغلال من جانب المحافظين. ويبدو أنه ستترتب على ذلك تحقيقات ومحاكمات، حاول إصلاحيون اتقاء شرورها بطلب الإذن لتظاهرة للاستنكار، ولإظهار التبجيل لقائد الثورة ومرشدها الأول.

والصّوَر في المجال الإسلامي الإيراني، وما كان منها دنيويا أو دينيا، كثيرة الاستعمال والاحترام، بخلاف ما كان عليه الأمر ولا يزال في المجال الديني العربي. وصحيح أن الصّوَر ما دخلت إلى المساجد في المجالين العربي والإيراني، لكن الشخصيات الدينية مثل الإمام علي والإمام الحسين وبعض الأنبياء والملائكة، جرى تصويرهم في إيران منذ القرن الخامس عشر الميلادي، بل ربما قبل ذلك. ويفسّر مؤرخو الفن الإسلامي ذلك بأنه نوع من استئناس المقدَّس وتعظيمه في الوقت نفسه. وفي حالة الإمام الخميني بالذات، فإن الانتهاك إن كان، لا ينظر إليه عامة الإيرانيين باعتباره احتجاجا سياسيا أو معارضة سياسية، بل يعتبرونه اختراقا لحدود وحرمات دينية، وبخاصة أن الرجل متوفّى، فتضاف لذلك حرمة الموت التي انتُهكت، مع ما يعنيه ذلك من مساس بالمقدّسات بمعنيين: الرمزية القدسية للإمام من خلال صورته، ورمزية الدولة وإسلاميتها. ففي حالة الإمبراطور البيزنطي كان هناك انتهاك لحرمات الدين من جانب السلطة السياسية، وفي حالة إحراق صورة الخميني هناك اختراق لحرمات الدين والدولة معا، باعتباره رمزا لهما. ولا شكّ أن ما يجري في إيران منذ الانتخابات الرئاسية في أواسط شهر يونيو (حزيران) الماضي إنما هو صراع على السلطة. وقد استخدمت فيه الأطراف المتنازعة كل الأسلحة المتاحة، بما في ذلك الأسلحة ذات الطابع الديني والشعائري والرمزي. ومن ضمن تلك الأسلحة تنازع «الأمانة» على الثورة والإمام والدولة. فالفئة الحاضرة في السلطة تذهب إلى أنها هي المؤتمنة على الثورة والدولة اللتين صنعهما الإمام. والإصلاحيون المعارضون يذهبون إلى أنهم إنما ثاروا ويثورون بسبب الخروج على مواريث الإمام ودولته من جانب المحافظين الحاكمين بقيادة المرشد السيد علي خامنئي. وهذه الحجج الصاعقة التي تستعمل الآن، ما جرى استعمالها بهذه الكثافة في أسابيع وشهور الأزمة بعد الانتخابات. بل كان المحافظون يتحدثون عن الاستقرار، وعن عدم السماح للأجانب باستغلال النزاع لإضعاف الثورة والدولة. وكان الإصلاحيون يتحدثون عن تزوير الانتخابات، وعن الأخطاء الكبرى في السياسات الخارجية والداخلية. وهذه حجج معتادة ومتعارف عليها في سائر الصراعات السياسية. بيد أن الانقسام الذي ما فتئ يتعمق، دفع الطرفين ـ وبخاصة المحافظون ـ إلى استدعاء صورة الخميني وثورته وعهده وشرعيته. وسارع الإصلاحيون إلى مجاراتهم بالذهاب إلى أنهم هم حراس ثورة الخميني وليس الحرس الثوري ونجاد. وهذا الأمر ـ ومن الطرفين ـ مغادرة واضحة وجريئة للسياسي إلى الديني والمقدّس. وقد كان بحسبان كلّ طرف أن هالة الخميني إن أمكن الاستئثار بها أو الاستظلال بظلّها، فإنها كفيلة بأن تسكت الخصم إن لم تقنعه. والواقع أنه بالعودة إلى ميراث الخميني لهذه الناحية، فإنه أدنى إلى وجهة نظر المحافظين. فعندما اختلف رئيس الدولة (وكان وقتها السيد الخامنئي) مع الحكومة، وقف الخميني مع الحكومة، وذهب إلى أنه إذا لزم الأمر فإن تعطيل بعض الحدود قد يكون مسوّغا إذا كان في ذلك مصلحة للدولة الإسلامية. ووقتها كان النزاع مع العراق مشتعلا، واليوم يشتعل النزاع بين الدولة الإسلامية والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة! فإذا كانت وحدة الموقف وقتها ضرورية بسبب الحرب مع العراق، فإنها اليوم أشدّ ضرورة بسبب حالة العداء أو التجاذب السائدة بين إيران وسائر الأطراف الغربية.

وقد أجاب الإصلاحيون على هذه المقارنات والحجج بأن المعسكر الحاكم هو الذي غادر ميراث الإمام. فالذين يواجهون الاضطهاد الآن، كانوا في السلطة في عصر الإمام، وهم الآن مُقصَون. ثم إنه لا مصلحة لإيران في أن يقودها ديكتاتور مثل أيام الشاه وصدّام. وقد قام الإيرانيون بالثورة بقيادة الخميني للتخلص من الديكتاتورية، وانتهاج سياسات شوروية داخلية ومع الخارج. وبخلاف أهداف الثورة فإن ما يحدث الآن هو استبداد بالداخل، وسوء تصرف تجاه الخارج، بحيث ما عاد لدى إيران صديق باستثناء فنزويلا وكوبا، الخ. ومع تطور النزاع إلى هذا الحدود، تراجعت الحِجاجات والمجادلات وارتفع صوت القضاء والمحاكمات من جهة، ودعوات التظاهر، ورفع اليافطات، وكلام الإنترنت من جهة ثانية. وتمايز بين المعسكرين صوت رفسنجاني رئيس مجلس الخبراء ومجلس تشخيص مصلحة النظام بالنهي عن الثوران من ناحية، ودعوة السلطات وخامنئي بالذات إلى التقدم في المصالحة الوطنية من طريق إنهاء المحاكمات والملاحقات واتهامات العمالة والتآمر. ومن المؤكّد أن خطاب رفسنجاني من جهة، وتصاعد التوتر بين إيران والمجتمع الدولي بشأن النووي، رفع من وتيرة الخصومة الداخلية من جديد، وبخاصة أن هناك جهات في الطرفين لا تقبل الحلول الوسط، وهي تتمثل في النخب الجديدة وضباط الحرس الثوري ممن هم في السلطة اليوم، وفي الطلاب من راديكاليي الإصلاحيين في الجهة المقابلة.

وهكذا فليس من الواضح كيف انفجرت المرحلة الجديدة التي كشفت عن الانقسام العميق. وهي مرحلة تحطيم الصّور أو الإيقونات، وذلك يعني أنه لا إمكانية للقاء، ولا بد أن ينكسر الطرف الإصلاحي المعارض انكسارا لا غموض فيه. والسجن والتعذيب قد يقمعان لكنهما لا يكسران. لأن المسألة في نظام ديني القناع مثل النظام الإيراني هي في أعين العامة الرموز الدينية، والصدقية في صونها ونصرتها، أو بعبارة أخرى: مَن الأكثر أمانة للمقدّس، والأكثر قدرة في الحفاظ عليه والدفاع عنه؟ أما الإصلاحيون فيملكون الشواهد من الماضي، ويشيرون إلى وجوه الخطل في الحاضر. وأمّا الحاكمون فيتحدثون عن انتصارات كبرى أيام نجاد، ويثيرون المخاوف من أن تزيد أعمال الإصلاحيين في أطماع الخارج، بل إن الإصلاحيين قد يكونون على تنسيق مع الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين من أجل إسقاط النظام الإسلامي أو إحباطه! لقد اختار أحد أصحاب الفكاهة السوداء واقعة احتراق صورة للإمام الخميني في أثناء تظاهرة الطلاب ليرميها في وجه الإصلاحيين متهما لهم باختراق المقدّس وانتهاكه. والراجح بالفعل أن يكون الأمر قد بدأ على هذا النحو، لأن الإصلاحيين يعملون بوعي ومنذ البداية على الاحتماء بعباءة الخميني، ولا يتصوّر أن يقوم أحد من صغارهم أو كبارهم بإحراق صورته عمدا. ذلك أن خصومتهم مع الحيّ وليست مع الميّت، مع خامنئي ونجاد، وليست مع الإمام. ولن يقوم المحافظون بإحراق صورة الإمام بالطبع أيضا. ولذا فإن هذا العمل إن لم يكن قد وقع مصادفة وجرى استغلاله، فإنه وقع من جانب أحد المحترفين في الأجهزة السرية، لزيادة الضغوط على الإصلاحيين، والمزيد من تشويه صورتهم. لكن الذي قام بذلك أظهر من حيث يدري أو لا يدري أن الأمور وصلت إلى نقطة اللا رجوع بين الطرفين، لأن الخلاف تطور من صراع على السلطة إلى صراع على «المقدّس» الشديد القوة لأنه محتجب بالماضي المجيد وبالموت، والشديد الضعف لأنه يمكن استخدامه بطرائق مختلفة ومتناقضة.

بين تحطيم الصّور في الإمبراطوريتين الدينيتين البيزنطية والإيرانية صلة تتمثل في الإقدام على انتهاك المقدّس الرمزي. أما في بيزنطية فإن الذي قام بالعمل الشائن الإمبراطور نفسه وقفا لصعود نفوذ رجال الدين الذين كانوا يبنون سيطرتهم من هذا الطريق. وأمّا في إيران، فإن تحطيم الصّور جاء نتيجة تفاقم الصراع على السلطة، بحيث ما عادت المقدسات قادرة على الجمع، بل هي أدنى إلى الاستعمال في الاختراق والافتراق. وفي الحالتين البيزنطية والإيرانية ليس هناك مجال للحلول الوسط. فالذي ينتهك المقدّس لا توبة له سواء أكان المرتكب في السلطة أو خارجها. ويبقى المقدّس شاخصا ملفّعا بالجلال. أمّا الآخرون فهم فانون بلعْن أو دون لعْن. أولم يقُل داود النبي والملك بحسب العهد القديم: عبث وباطل الأباطيل، كل شيء باطل!