فرنسا والإسلام

TT

اندلعت المناقشة حول الإسلام في فرنسا. ولكن هل توقفت يوما ما منذ 11 سبتمبر؟ الشيء الجديد الآن هو أنهم يربطونها بالهوية الوطنية. بمعنى: هل يقبل المسلمون فعلا بقيم الحضارة الفرنسية أم لا؟ فإذا ما قبلوا فإنهم سوف يُقبلون من قِبل المجتمع ويندمجون ويحصلون على حقوقهم. وإذا ما رفضوا فإنهم سوف يهمَشون. هذا هو باختصار شديد الخيار الأساسي المطروح عليهم الآن.

ولكن الأمور لا تتوقف عند هذا الحد. فاليمين الفرنسي يعتقد بأنهم لا يستطيعون أن يقبلوا بقيم الحداثة والعلمانية لأن الإسلام يمنعهم من ذلك. وينسى هذا اليمين أن عقيدته الكاثوليكية قاومت أيضا قيم الحداثة على مدار مائتي سنة متواصلة وبكل عنف. إنهم لا يلصقون التعصب إلا بالإسلام! تركيز مشبوه سيئ النية أحيانا، وساذج بريء، ولكن جاهل أحيانا أخرى. ثم ينسى هؤلاء أن هناك تفسيرين للإسلام لا تفسيرا واحدا: التفسير المنغلق والتفسير المنفتح، التفسير المتطرف والتفسير الوسطي المعتدل. والثاني هو الأغلبية. فعموم المسلمين في فرنسا وكل أوروبا ينحون باتجاه التقدم ومصالحة رسالة القرآن والإسلام مع روح العصور الحديثة. وهذا هو خط المستقبل في الواقع. فالمسلم لن يتخلَ عن تراثه الإسلامي العريق لكي يقبلوه. وله الحق في ذلك. إنه تراث آبائه وأجداده وفيه قيم روحانية وأخلاقية عالية يمكن أن تفيد حتى فرنسا ذاتها. ولكنه في ذات الوقت لن يرفض فلسفة العصور الحديثة التنويرية، لسبب بسيط هو أن أجداده هم الذين علموها للفرنسيين والأوروبيين يوما ما. وبالتالي فالمسلم يستطيع أن يكون مسلما وعقلانيا مستنيرا في ذات الوقت. وهذا هو جوهر الإسلام في الواقع عندما كانت للإسلام حضارات وأمجاد. المسلم ليس مضطرا للتخلي عن دينه لكي يصبح حديثا! يكفي أن يفهمه بشكل صحيح لكي تنحل المشكلة من أساسها. وهذا ما يطبقه المغربي طارق عبرو أمام جامع الهدى في مدينة بوردو. فهو غارق في قراءة كانط والتراث الإسلامي في آن معا! ولا يشعر بأي مشكلة على ما يبدو، ومعه الحق. وليت كل أئمة الجوامع عندنا يقلدونه ويقرأون بالإضافة إلى كانط الفارابي وابن سينا وابن رشد والمعري ودانتي وابن عربي وبقية الكبار. فهذا لا يتعارض مع روح القرآن الكريم إذا ما فهمناه جيدا. القرآن مليء بالدعوات للتأمل في الكون والتعقل والتدبر والنظر. ليتهم ينفتحون قليلا على الأفكار الجديدة، مثلما يفعل بابا روما مثلا، ويقدمون لنا تركيبة ذكية للتوفيق بين العلم والإيمان، كما فعل هو مؤخرا، وكما فعل سلفه يوحنا بولس الثاني. متى كان الإسلام ضد العلم أو نور العقل والفلسفة؟ عندما انهارت الحضارة العربية الإسلامية ودخلنا في عصور الانحطاط الطويلة التي نحاول بشق الأنفس أن نخرج منها الآن.

بعد انحسار الموجة الأصولية التي غمرتنا منذ أيام الخميني قبل ثلاثين سنة سوف ينفتح عهد الموجة التنويرية المباركة بلا ريب. انتظروا قليلا فوراء الأكمة ما وراءها.. الصحوة الحقيقية لم تحصل بعد. إنها لا تزال في مرحلة المخاض على الطريق. ولكن عموم الناس لا يرونها لأنهم عاجزون عن رؤية ما يعتمل تحت السطح أو يختمر تحت الأرض. فكثيرا ما تعمينا الأشياء الظاهرية عن رؤية الأشياء العميقة الباطنية. وشمس العرب والإسلام سوف تسطع على العالم من جديد..

أخيرا ينبغي على إخواننا الفرنسيين والغربيين عموما أن يدركوا أن حضارتهم ليست معصومة، وأنها بحاجة إلى مراجعة وإعادة نظر. لقد خانت انطلاقتها الأولى الرائعة وأسرفت، ولكن في الاتجاه المعاكس: أي اتجاه الماديات والإباحيات والشهوات التي لا نهاية لها إذا ما أُرخي لها العنان.. لقد تطرفت في اتجاه الأنانية وعبادة المال والعجل الذهبي واحتقار كل القيم التي تتعالى على الواقع الأرضي والتبادلات التجارية والمنفعية العاجلة. ثم سقطت في نوع من النسبوية الأخلاقية بل وحتى العدمية. انظر إلى تمزق الأسرة وتشيؤ العلاقات الإنسانية، واعتبار المتعة السريعة هي غاية الغايات. وهذا ما يقوله حكماؤهم وليس نحن، لكيلا نُتهم بأننا ضد القيم الفرنسية أو الحضارية! ليتواضع إذن قليلا هؤلاء السادة الكبار وليكنسوا أمام بيتهم جيدا. فعولمتهم الكاسحة تبدو حتى الآن مُفرغة من القيم الإنسانية والروحانية في معظمها. إنها لا تستطيع أن تعطي درسا أخلاقيا لأحد للأسف الشديد. يكفي أن ننظر إلى التكالب المسعور على الربح وربح الربح وتجميع الأموال بأي شكل لكي ندرك ذلك. لقد أصبحت هذه الممارسات دينا ما بعده دين. وبالتالي فليس العالم العربي أو الإسلامي هو وحده المريض، وإنما العالم الغربي المادي الإلحادي الذي فقد بوصلته الأخلاقية ونزعته الإنسانية هو أيضا مريض! ولكن نوعية المرض مختلفة في كلتا الجهتين بل ومتعاكسة.