(الآخر المحترم): تحية لـ(الضمير المسيحي) في ميلاد المسيح

TT

(جويلوما موراند)، هل تعرفونه؟.. السؤال دعوة للتعرف عليه، لأنه رجل سويسري مسيحي ذو ضمير وعقل ونبل.. كيف؟.. بعد أن صوتت أغلبية سويسرية لصالح حظر بناء (مآذن) جديدة في سويسرا: ارتاع موراند من هذا السلوك المتعصب ووصفه بأنه (فضيحة بكل المقاييس).. ولم يكتف بالإدانة (القولية) لهذا الحظر، بل (ابتكر) أسلوبا تناهى في النبل والشجاعة والساحة، إذ عمد إلى (مدخنة) فوق سطح شركته فجعلها (مئذنة)!!

تبارك خالق الإنسان!.. كلما ابتئس المرء من مسالك الناس الأشرار.. اكتشف في الناس أنفسهم من يملؤه غبطة واستبشارا من الخيرين النبلاء الشرفاء منهم.. ومن قبل تساءلت الملائكة في عجب: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء»؟.. فجاءها الجواب من الله تعالى: «قال إني أعلم ما لا تعلمون».. لكأن الله يقول لملائكته: أعلم أن في الإنسان هذا المنزع إلى الشر، ولكني أعلم أن في الإنسان - الذي خلقته واستخلفته - مدارك ومواهب وضمائر وفطرة خيرة تؤهله لإعمار الأرض بالعلم والمعرفة والكدح الدائم، والعروج إليّ بالعبادة الخالصة، والدفاع عن الحقوق بالكلمة الشريفة، والسلوك العملي الفاضل العادل.

وموقف موراند ليس مفردا ولا مبتوتا، فهناك مسيحيون شرفاء وقفوا ذات الموقف الرائع من مسألة حظر المآذن في سويسرا.. ففي النمسا ظاهرة شبابية تنزع ذات المنزع الكريم السمح.. وفيما يلي ملخص لتقرير إخباري نشرته «الشرق الأوسط» منذ أيام.. يقول التقرير: هناك جماعات من الشباب النمسوي المناهض للتعصب العنصري، انتهزت فرصة التهيؤ للاحتفال بأعياد الميلاد ورأس السنة لكي تعبر عن تضامنها مع (المآذن) الإسلامية في أشكال عديدة مبتكرة.. من هذه الأشكال: اتخاذ صور المآذن كأساس للزينة المستخدمة في مناسبة الاحتفالات.. وتوزيع وتبادل ملصقات جميلة ملونة - مختلفة الأحجام - لمآذن: في شكل بطاقات معايدة.. وبناء مجسمات في شكل مساجد صغيرة تعلوها مآذن مزخرفة وبأشكال وألوان متنوعة تتدلى من سقف حجراتهم وصالات لقاءاتهم وكأنها ثريات. رافعين معا شعار (فلتزين سقفي مئذنة).. ورسم أشكال مساجد بمصابيح متعددة الألوان على زجاج نوافذ منازلهم.. والمعروف أن العائلات في أوروبا تتنافس في تزيين نوافذها ومنازلها بأنواع مبتكرة من أنواع الزينة والأنوار الملونة.. واليوم تنضم مجسمات المآذن والمساجد ورسومها الضوئية إلى أنواع الزينة الموسمية في أعياد الميلاد.. وهذه (الأعمال الفنية الجميلة) في نصرة المآذن، ليست (صامتة) بل اقترنت بـ (الإفصاح الفلسفي أو الأخلاقي) عنها.. يقول التقرير نفسه: إن هؤلاء الشباب يقولون: إننا ندافع عن حق الأديان في التعبير عن معتقداتها، وإن عددا من الشباب السويسري الجنسية أصبح من أشد المتحمسين لفكرة المآذن الإسلامية كزينة لأعياد الميلاد.. ومن أعمالهم في ذلك: صنع المآذن في شكل حلويات ومخبوزات تدخل في تصميمها المكسرات وجوز الهند وتفوح منها النكهات الشرقية، الحبهان والقرفة والقرنفل وذلك كرد على تصوير المآذن في صور صواريخ حربية توشك على الانطلاق.. ثم ان الاتحاد الأوروبي انتقد الموقف السويسري، كما انتقده عظيم الكاثوليك: بابا الفاتيكان.

إننا نحَيي: أجمل وأصدق وأبر وأوفى تحية: هذا (الضمير المسيحي) الذي اقترب من تعاليم المسيح - عليه السلام - الذي أرسله الله تعالى نبيا رسولا مبشرا بالحق والعدل والتسامح وطهارة الضمير وسمو الأخلاق.. نحييه تحية مقرونة بالتركيزعلى المحاور التالية:

أولا: إن في القرآن المجيد منهجا مبينا لـ (التقريب النفسي) بين المسلمين والمسيحيين.. ومن براهين هذا المنهج:

1- «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى».. ولعل سبب هذا القرب النفسي المسيحي من المسلمين هو شعور الرأفة والرحمة في قلوبهم: «وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم آتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة».

2- «الم. غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله».. وهذا تعقيب قرآني على المعركة التي كانت دائرة بين نصارى الروم ومجوس فارس وقت التنزيل. ولقد انحاز التعقيب القرآني إلى جبهة النصارى لما معهم من الحق والخير، بل سمى القرآن نصرهم (نصر الله)، وهو نصر فرح به المسلمون.

3- احتفى القرآن أيما احتفاء بالمسيح العظيم عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - وبإنجيله، وبأمه الطاهرة مريم، وبحوارييه رضي الله عنهم، وهو احتفاء مفعم بالتقريب النفسي بين أتباع محمد وأتباع عيسى عليهما صلوات الله وسلامه.

ثانيا: المحور الثاني هو: أن (الأذان) الذي تجهر به المآذن الإسلامية هو - في حقيقته - إحياء وجهر بجوهر رسالة المسيح ولرسالات الأنبياء جميعا.. فالكلمة الأولى في الأذان هي (الله أكبر).. فالله جل ثناؤه هو (الأكبر) - بإطلاق - في دعوات أولي العزم من الرسل - مثلا -: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ومن هنا كان صراعهم الشديد مع (الطغاة) الذين يصرون على مشاركة الله في (كبريائه): تقدس في علاه.. والكلمة الثانية في الأذان هي (أشهد أن لا إله إلا الله).. وهي الكلمة التي هتف بها أنبياء الله جميعا.. ومن أجلّهم وأعظمهم المسيح العظيم، فقد قال: «إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم».. ولنمتع البصر - في هذا المقام - في هذه اللوحة الجميلة التي تنقل حوار نبي الإسلام مع عدي بن حاتم الطائي - الذي كان قد تنصر قبل الإسلام - .. فقد قال النبي لعدي: يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ أيضرك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل تعلم إلها غير الله؟».. والكلمة الثالثة في الأذان هي: «أشهد أن محمداً رسول الله».. هي شهادة تتضمن الاعتراف العقلي والإيماني برسالات الأنبياء جميعا بوجه عام: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله».. وتتضمن شهادة أن محمد رسول الله الاعتراف العقلي والإيماني برسالة المسيح بوجه خاص. قال الله سبحانه: «وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين».. وقال نبي الإسلام: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».

ثالثا: المحور الثالث هو (تأصيل) هذه التحية الواجبة للضمير المسيحي العادل النزيه الشريف بأصول ثلاثة في منهج الإسلام:

1- أصل آية رد التحية بمثلها أو بأحسن منها: «وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا».. ولقد أعظم هؤلاء النصارى الشرفاء التحية لأهل الإسلام، فتعين أن نردها بأحسن منها: تقديرا لهم وثناء على ما قاموا به من نصرة لشعائر الإسلام.

2- أصل تشوق النبي ورغبته وأمنيته في تكريم زعيم قبلي عربي مات على الشرك وهو المطعم بن عدي.. وقد كان من الساعين في نقض صحيفة مقاطعة قريش للنبي وصحبه، كما أنه أجار النبي ووفر له الحماية مرجعه من الطائف.. لقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو ينظر إلى أسرى المشركين في غزوة بدر: «لو كان المطعم حيا وسألني في هؤلاء لأعطيتهم إياه».. لقد تمنى أن يكون المطعم حيا - وقد مات على الشرك - لكي يقدم له (جائزة تكريمية) هي إطلاق سراح أسرى بدر من أكابر المشركين المقاتلين: لقاء معروفه وجميله في نقض صحيفة المقاطعة، وفي إجارة النبي مرجعه من الطائف.

3- الأصل الثالث الحديث النبوي الصحيح (القاعدة) وهو: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس».. من الدين.. من السنة.. من (توحيد الله) - عز وجل -: أن نشكر كل ذي فضل ومروءة ونبل وضمير من الناس.. وهؤلاء المسيحيون الفضلاء في النمسا وسويسرا وغيرهما: ناس من الناس قطعا.. وإن لم نفعل فقد جحدنا فضل الله، والعياذ بالله، ذلك أن الحديث قد ربط بين شكر الناس وشكر الله، والمعنى: أن جحود فضل الناس توطئة لجحود الله وفضله عز وجل.

ومع وجود مثل هؤلاء الشرفاء من أهل الكتاب ينبغي أن يوصف الدعاء على هؤلاء ضمنا - أي من خلال الدعاء على أهل الكتاب بإطلاق - ينبغي أن يوصف هذا الدعاء بأنه بدعي عدواني ظلم جهول جلف غليظ القلب.. ثم أن هذه الآثام كفيلة برد الدعاء لأن من شروط قبول الدعاء: ألا يكون عدوانيا ظلوما بدعيا.