يوم تقاعد المفكرون قبل الأوان

TT

من المتوقع أن ما أحاول مشاركته مع القراء الأعزاء لن يقتصر تناوله على كتابات بالإنجليزية والعربية (لغتي كتاباتي الصحافية) بل سيثار في بلدان سكانها مسلمون قلقون من تقاعد المفكرين، خاصة في البلدان الناطقة بالعربية، قبل بلوغهم سن التقاعد.

أسطر هذه الكلمات وما زلت في رحلتي الخليجية منذ السادس من نوفمبر، و قضيت الـ 12 يوما الأخيرة ضيفا على الكويت، المدينة الثانية (بعد لندن) التي لي فيها العدد الأكبر من الأصدقاء والأحباب من نوع معين.

نوع من مفكرين ومثقفين يشاركونني الفكر التسامحي المحافظ (بمفهوم حزب المحافظين البريطاني Conservative Party أو Tory Party ). فكر يدعم مجتمع اقتصادياته حرية السوق، بعيدا عن سيطرة الدولة؛ وحرية الفرد المقدسة في اختيار الملبس والمأكل والمشرب والعقيدة والحصول على المعلومات دون رقابة أو وصاية، وحقه في التعبير الحر في إطار القانون ـ الذي صدر بدوره عبر قنوات شرعية ديمقراطية اختارها الشعب بإرادة حرة دون خوف أو توجيه أو تزوير أو رشوة، ويحميه قضاء مستقل نزيه عادل ـ وحقه الأكبر في حماية المجتمع لهذا الحق.

لذا قضيت أطول مدة في الكويت، وهي لا تكفي لرؤية الأحباب والمعارف وحضور الديوانيات، أساس فكرة الحوار وحرية التعبير وقبول الرأي الآخر.

الكويت استضافت، في هذه الفترة مؤتمر حوار الفكر العربي، ثم تلاه مؤتمر قمة التعاون الخليجي الثلاثون.

نجاح المؤتمر، كان متوقعا، أما نجاح التنظيم (على ضخامة المشاركة وعدد الصحافيين والمراقبين) كان إنجازا رائعا لكل من الديوان الأميري ووزارتي الخارجية والإعلام، سواء على المستوى اللوجيستي المعقد أو في توفير الضيافة الكريمة التي اشتهر بها الكويتيون.

وكانت فرصة للقاء وحوار عدة مرات في اليوم مع المفكرين من بلدان عربية مختلفة، ومع مفكرين من أصول شرق أوسطية من الغرب.

حواري مع المفكرين العرب من الغرب والشرق، يشير إلى أن تقاعد المفكرين (بالكف عن إطلاق سراح الأفكار المحبوسة بأدمغتهم) لم يكن اختياريا، وكذلك انزواء البعض الآخر؛ ففي داخل قلوبهم لا يريدون التقاعد أو الانزواء، بل احتجبت أفكارهم؛ وهي مأساة حقيقية.

فلا يمكن للأمم أن تتقدم دون خروج أفكار المفكرين والمبدعين إلى العلن لمناقشتها، في ديوانيات الكويتيين ومقاهي المثقفين في الإسكندرية والقاهرة وبيروت؛ والندوات الخليجية والصحف والتلفزيون والإذاعة.

في المنطقة عنق زجاجة تنحشر فيه إبداعات المفكرين، اسمه تخيب المثقفين للآمال عمدا أو إجبارا أو تجاهلا، أو اتقاء لغضب «الفتوات» و«البلطجية» سواء القومجية من حملة هراوات الاتهام بخيانة العروبة والتنكر لبلدان المولد والعمالة للغرب (تهمة ابتدعتها بروباغندا الدولة البوليسية سواء الناصرية في مصر أو البعثجية في الهلال الخصيب) أو من شيوخ «المنسر» الإسلاموجية من حملة سيوف وخناجر وقنابل التكفير والردة وفتاوى إهدار الدم.

سألتني شابة عراقية في عمر الزهور تدرس الصحافة في دبي، وأخرى مذيعة تلفزيون أيضا عراقية، لماذا غيب (بضم الغين) العراق عن مؤتمر الفكر العربي ـ وكان موضوعه دور المفكرين العرب في الخروج من الأزمة الاقتصادية؟

أليس أكثر من نصف العراقيين عربا؟

ألا ينتمي العراق لمنظومة الجامعة العربية باتفاقيات ومعاهدات تعود إلى مؤتمر انشاص عام 1946؟

لماذا لا يطبع العرب العلاقات مع العراق، خاصة من البلدان التي لا يعلو فيها صوت على زعيق القومجيين العرب من أجل الوحدة؟ (للأمانة بادرت بلدان مجلس التعاون الخليجي، خاصة في فترة رئاسة الكويت بفتح السفارات في بغداد ومد خطوط الطيران وفتح طرق المواصلات، رغم معاناة الكويتيين من العدوان الصدامي والاحتلال عام 1990).

السؤال طرح في يوم تاريخي.

البرلمان العراقي (المنتخب لأول مرة دون توجيه سيف البعث الدموي) يتفق على تعديلات ديمقراطية لضمان انتخابات نزيهة شريفة متعددة الأحزاب لأول مرة في تاريخه، وهو أمر فريد في المنطقة (منذ كارثة الانقلاب العسكري في مصر عام 1952 وانتشار العدوى حولها) فجر الإرهابيون في اليوم نفسه ـ من فتوات القومجية البعثجية وبلطجية الإسلاموجيين - خمس قنابل ضحاياها من التلاميذ والنساء والمدنيين العراقيين، انتقاما من نجاح الأمة العراقية في امتحان الديمقراطية.

لم أعثر من المثقفين العرب والإسلاميين إلا على نفر علق عليها في مجالس خاصة وليس في صحافة الجماهير الشعبية في بلدان العرب والمسلمين، التي امتلأت بالتحليلات والآراء بشأن الاستفتاء السويسري الذي رفضت فيه الغالبية بناء مساجد يعلوها مآذن بعد الآن.

لم أسمع أو أقرأ عن مظاهرة واحدة في بلد عربي تتضامن مع ضحايا الإرهاب في العراق، وتدين سفك دماء الأبرياء.

لم أر ما يكفي من تحليلات حول الأهمية التاريخية لما تم انجازه في البرلمان العراقي ولم أر دعوة واحدة للخروج في مظاهرة تأييد للديمقراطية العراقية وإدانة للإرهاب الذي يتعرض له العراقيون عقابا لهم على خروجهم على وحدة الصف العربي الديكتاتوري المتفقة على تزوير الانتخابات.

لم أسمع ما يكفي من تصريحات رسمية عربية تدين الإرهاب الذي لا هدف له سوى معاقبة العراقيين بقتل تلاميذهم الصغار لأنهم اختاروا الديمقراطية والحرية ورفضوا الديكتاتورية الشمولية سواء القومجية البعثجية أو السلفية التكفيرية؛ فكل القنابل وجهت للمدنيين وضحاياها من العراقيين ولم توجه لما يسميه التحالف القومجي التكفيري «الاحتلال».

وإذا كان التكفيريون يفرضون الحجاب على النساء، فجبن المثقفين والنفاق الإعلامي فرض النقاب على المفكرين، بل ويغلق اليوم حزام العفة الفكري على أدمغة القلة الباقية من قراء ومستمعين ومتفرجين لم تغرر بهم برامج الشعوذة وسلب العقول، وإدمان ما يسمي بـ«استعراض الواقعية» بوضع بضعة متطوعين ومتطوعات في «حدائق الإنسان» والاستديوهات المصطنعة بدل الأقفاص، وشاشات التلفزيون تغني عن مشوار الذهاب ودفع ثمن تذكرة دخول الحديقة للتفرج على كائناتها.

ويصبح محور المناقشة هو أي من أبطال حديقة الإنسان سيكون المفترس ومن الضحية؟

بدلا من مناقشات تجربة الديمقراطية العراقية ومواجهة ظاهرة الإرهاب، خاصة الإرهاب الفكري.

أكبر الصدمات، كان اكتشافي لقناعة صحافية لبنانية مثقفة بأن الذي شنق قبل عامين لم يكن الطاغية صدام حسين، بل شبيه له، بينما يخبئ الأميركيون صدام في مكان آمن للاستعانة به وقت الحاجة؛ ولم تحدد بالضبط هذه الحاجة.

مؤهلات صدام هي الاغتيال والإرهاب منذ نعومة خناجره، وخبرته السياسية القبض على رقبة شعبه بيد، والعدوان على الجيران باليد الأخرى..

هل يحلم مثقفون ومثقفات عرب إذن، بأن درع الديكتاتور الشمولي سيكون أكثر أمنا «للمثقف الملتزم» من حجاب ونقاب وإرهاب عباءة التكفيرية الشمولية؟