الابتسامة السلطانية.. «كلمة سر» الأيام الصعبة

TT

نعيش منذ أيام مع الشعب السعودي والقيادة السعودية فرحة عودة ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز من رحلة علاج ونقاهة طالت وكاد القلق يتكاثر في شأنها لولا أن أمثولة الأمير الشقيق سلمان بن عبد العزيز في التراحم وملازمة ولي العهد من يوم الاثنين 24 نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 وحتى يوم العودة الجمعة 11 ديسمبر (كانون الأول) 2009 اختصرت القلق.

ونتابع منذ أيام اللعبة الحوثية الشريرة ومعها اللهجة الإيرانية في مخاطبة المجتمع الدولي وكيف بدل أن يهدئ آية الله خامنئي بصفة كونه المرشد من حدة خطاب الرئيس محمود أحمدي نجاد الخارج من معركة الانتخابات أقل شأنا لكنه أكثر تشددا وبدل أن يزوِّد خالد مشعل بما من شأنه الإبقاء على حماس متباعدة عن فتح ومتوددة للحوثيين، فإنه يرمي في الموقد النجادي المشتعل المزيد من الحطب.

ونستحضر ونحن نعيش فرحة العودة السلطانية ونتابع التداعيات الناشئة عن حدة الخطاب الإيراني، ذلك الأسلوب الذي كان باستمرار يعتمده الأمير سلطان بن عبد العزيز عندما كان وزيرا للدفاع ثم بعد مبايعته وليا للعهد إلى جانب وزارة الدفاع في التعاطي مع الأزمات وما أكثرها تعصف بالمنطقة. ففي كل أزمة يتسبب بنشوئها عن سابق تصور وتصميم فرد مستكبِر من محتكري القرار في نظامٍ ما، كنا نجد سلطان بن عبد العزيز يرفع الصوت هادئا وناصحا فيقول ما معناه إنه لا يجوز أبدا أن يُترك لفرد أن يلعب ويناهض آراء العالم. كذلك نراه دائم الخشية من أن يتسبب هذا الفرد في فرض حالة تؤسس لمخطط استنزاف للقدرات العربية. وهذه الخشية تجعلنا أيضا نستحضر الجهد الذي بذله شخصيا في زمن المحنة الكبرى التي واجهتها الأمة نتيجة الاجتياح الصدّامي للكويت يوم الخميس 2 أغسطس (آب) 1990 وكيف أن الأمير سلطان تمنى لو أن تصحيح الخطأ يتم على وجه السرعة، وفي ضوء التصحيح الذي هو انسحاب القوات العراقية من الكويت يمكن للصدمة أن تعالج بالاعتذار. ولكن العناد والمكابرة وعدم التبصر في ما يمكن أن تنتهي إليه المغامرة وقفت حائلا دون أن يأخذ الجهد طريقه إلى نقطة معالجة الحالة المستجدة على الأمة، إذ ليس هناك ما يبرر، لا بفعل أزمة طارئة حول حقل نفطي ولا بذريعة الحق التاريخي، أن تجتاح قوات دولة عربية أرض دولة عربية جارة وتتعامل معها على نحو التعامل الذي لقيته الكويت من العراق الصدّامي. وكان الاستنزاف المتواصل إلى الآن.

في هذه الأيام تعيش المنطقة حالة مماثلة في بعض جوانبها لحالة يوم الثاني من أغسطس 1990، حيث إن إيران النجادية ومن شعور يصعب تفسيره بالعظمة تنشط من أجل استيلاد حالة استنزاف جديدة. وإذا كانت الحالة الأولى حدثت في زمن كان الخير كثيرا فإن الحالة التي تستجد تحدث في زمن أزمة مالية تعصف بالكبار قبل الصغار من دول العالم، وفي زمن تحتاج فيه الأمة إلى الإنفاق على التنمية والعِلم والصحة والزراعة وتحلية المياه، وهي من الأمور التي كانت باستمرار موضع اهتمام الأمير سلطان الذي حقق توازنا ملحوظا بين المسؤولية الدفاعية والمسؤولية الاجتماعية والصحية والثقافية من جهة ومسؤولية الحرص على إبقاء العلاقة العربية ـ العربية في دائرة التوافق السياسي الذي هو توأم التراحم العائلي، وإبقاء علاقة الأمتين العربية والإسلامية مع المجتمع الدولي في دائرة التواصل الإيجابي. ولهذا التوجه عند الأمير سلطان الوزير ثم ولي العهد «كلمة السر»، إذا جاز القول، المتمثلة بابتسامة قلَّ نظيرها بين أهل القرار العربي والدولي الذين ربما يرون في تقطيب الوجه ما يؤكد قوة الشخصية في حين أن ثقة «أبو خالد» بنفسه تجعله يحرص على هذه الابتسامة حتى في أحرج الظروف عندما كان يجادل بالمنطق المسؤولين الأميركان والبريطانيين والفرنسيين عندما يزورهم أو يستقبلهم في ديوانه في الرياض في بنود «الأجندة السلطانية» التي باستمرار تبدأ بالقدس كي لا تغيب عن ذاكرة أهل القرار في الدول الكبرى الثلاث ويأخذ كل منهم في الاعتبار سواء كان سينصرف أو سيجدد الولاية بضع سنوات أخرى أن مسألة القدس لا تتحمل عدم اكتراث دولي بها. وهؤلاء تأكد لهم ذلك منذ واقعة الملك فيصل رحمة الله عليه مع ثعلب الدبلوماسية الأميركية الدكتور هنري كيسينغر الذي خاطب فيصل بن عبد العزيز بمفردات ثعلبية ماكرة فجاءه الجواب بلغة الملك عبد العزيز وكيف كان حديثه مع أهل القرار الأميركي والبريطاني في زمانه أمثال روزفلت وتشرشل. ومن باب التذكير نشير إلى تلك الواقعة والتي على نحو ما سمعناها من الأمير خالد الفيصل أمير مكة المكرمة، جرت على النحو الآتي: التقى كيسينغر وزير الخارجية الأميركية مع الملك فيصل في جدة بعد حرب 1973 متطلعا إلى الحصول من العاهل السعودي على قرار بعدم وقف ضخ النفط. ولاحظ كيسينغر أن الملك فيصل متجهم الوجه فخاطبه مداعبا: إن طائرتي تقف هامدة في مطار جدة بسبب نفاد الوقود فهل تأمرون جلالتكم بملئها وأنا مستعد للدفع بالأسعار الحرة. ولم يبتسم الملك فيصل بل رفع رأسه نحو كيسينغر وقال له: أنا رجل طاعن في السن وأمنيتي أن أصلي ركعتين في المسجد الأقصى قبل أن أموت فهل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية؟

تلك هي الواقعة التي من الجائز الافتراض أنها كانت من جملة أسباب دفعت بالأشرار إلى ترتيب عملية اغتيال الملك فيصل. أما بقية الأسباب فهي أن المغفور له حقق في تاريخ العلاقات العربية المتأزمة حالة صفاء أوصلت الأمة إلى مشارف الصمود بعدما كادت تصل إلى حافة الهاوية، وهذا الصفاء حدث في القمة العربية الاستثنائية في الخرطوم صيف 1967 وكان فيصل بن عبد العزيز بتجاوزه الخلاف المستحكِم مع الرئيس عبد الناصر يساعد في استيلاد اللاءات الثلاث، وأعان مصر على النهوض من كبوة الخامس من يونيو (حزيران) 1967 وبذلك فوّت على الصهيونية فرصة تحقيق المخطط الجهنمي والذي تلخصه مقولة «من النيل إلى الفرات أرضك يا إسرائيل».

وبعد هذه الواقعة لم تعد سياسة المكر على طريقة كيسينغر قائمة وإن كانت السياسة البديلة لا ترقى إلى مستوى طموح القيادة السعودية التي طالما سعت لتكون أميركا أكثر التزاما بالعهد وتنفيذا للوعد منذ أيام الملك فيصل ثم بعد رحيله ومبايعة أخيه خالد ملكا وكذلك في سنوات الملك فهد رحمة الله عليهم وصولا إلى ما نعيشه اليوم حيث التعهد الأميركي على المحك وصدق النوايا الأميركية قيد الاختبار. وطوال سنوات الملوك الثلاثة الراحلين ومع ولايته لعهد أخيه الملك عبد الله، أطال الله عمر الاثنين، بقيت «الأجندة السلطانية» على حالها، وبقيت وقائع التعاطي مع المملكة كصاحبة حق في امتلاك قوة عسكرية تحميها وليس لتهديد الآخرين بها على الوتيرة نفسها منذ ذلك اللقاء التاريخي في باريس الذي التقى خلاله الملك فيصل بالرئيس شارل ديغول قبل تسع وثلاثين سنة، وكان الأمير سلطان كوزير للدفاع برفقة أخيه الملك بينما رئيس الوزراء زمنذاك (الرئيس بعد ذلك) جورج بومبيدو ووزير الدفاع الفرنسي مسمير يشاركان الجنرال ديغول اللقاء الذي دام أربع ساعات وهو ما لم يستغرقه لقاء بهذا الطول بين رئيسي دولة. ويوم انعقاد الاجتماع كانت أحوال الأمة غير سارة على الإطلاق لكن الرئيس الفرنسي كان من الشفافية بمكان خصوصا أنه صاحب الموقف الشهير وخلاصته أن فرنسا في موضوع الأزمة الحادة بين مصر وإسرائيل ستكون إلى جانب المعتدى عليه. وبالفعل كانت كذلك: وللتمييز بين ثعلبة كيسينغر ومبدئية ديغول نشير إلى واقعة سمعناها من الأمير سلطان وخلاصتها أن الرئيس الفرنسي وبعدما كان أصغى باهتمام إلى حديث الملك فيصل والعرض الذي لخصه الأمير سلطان في شأن الاحتياجات العسكرية قال وهو يودع الملك على باب القصر، مخاطبا وزير الدفاع مسمير: نفّذ ما يريده منك وزير الدفاع السعودي.

يحتاج الحديث حول ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز إلى صفحات فهو كتاب من ستين سنة حافلة بالعطاء والإنجازات والمبدئية والابتسامة الدائمة التي تستهدف إشاعة التفاؤل والاتكال دائما على الله.. كتاب متعدد الفصول وحافل بالوقائع والأمثولات التي يحتاجها الجيل الثاني الذي هو في ضوء «هيئة البيعة» على موعد مع مسؤوليات تناط بالأصلح. لكن الحال الصعبة التي تواجهها المنطقة جرَّاء العناد الإيراني تواجهها بنسبة أكبر القضية الفلسطينية نتيجة ما يحاك من ألاعيب دولية متصهينة في شأن القدس، والحالة الأصعب الناشئة عن مزاج الفرد الواحد الذي هو الرئيس الجار محمود أحمدي نجاد وإصراره على مناهضة المجتمع الدولي ولو انتهى الأمر إلى عودة استنزاف الأمتين من جديد، تجعلنا ونحن نعيش وهْج تعافي ولي العهد وعودته بعد غياب دام 347 يوما كان الافتقاد خلاله إليه شاملا وتلك واحدة من الحالات الاستثنائية في تاريخ التوعك وما يرافقه من القلق على المتوعِك، نتطلع وقد استأنف النشاط استقبالا وترؤسا لمجلس الوزراء في غياب الملك وزيارات تفقدية، إلى ما كان باستمرار يعتمده في تعاطيه مع الأزمات كمعالجة وكعلاج في الوقت نفسه. وهو بذلك يخفف من قلق خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز على ما يحدث في بعض أقطار الأمتين من باكستان إلى السودان ومن العراق إلى اليمن ومن إيران إلى لبنان. وهذا الذي يحدث وبالذات من بعض الفلسطينيين وبعض اليمنيين المجندين أو المتطوعين في مخطط يستهدف أمتهم ومستقبل أبنائهم، هو العلة في ما يصيب أهل القضية الفلسطينية التي طالما سعى الملك عبد الله وولي عهده الأمير سلطان وإخوانهما ومعهم شعب المملكة وأدعية المخلصين من أبناء الأمتين من أجل ترسيخ الكلمة السواء بين أبناء تلك القضية. وفي تقديرنا أن القمة الخليجية الثلاثين في الكويت يوم الثلاثاء 15 ديسمبر (كانون الأول) 2009 كانت مدركة لهذه الحقيقة أكثر من أي قمم سبقت.

أطال الله عمر «أبو خالد» وأبقى على ابتسامته «كلمة سر» في الأيام الصعبة التي تعيشها الأمة.. وما أكثرها.