جميلة بوحيرد!

TT

مناضلة يعرفها أبناء جيلي جيدا، كان اسمها ملء الدنيا، وصورها في مختلف الأماكن، تصدرت في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي مانشيتات الصحف، ونشرات الأخبار.. إنها المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، التي قاومت الاستعمار الفرنسي في بلدها، وكانت من أبرز وجوه الثورة الجزائرية، حيث انضمت إلى الثورة صبية لتسقط في قبضة المستعمر عام 1957، فعذبت بوحشية بالغة، وحكم عليها بالإعدام، ولكن تم إطلاق سراحها بعد ذلك، وغادر المستعمر بلادها إلى الأبد.

تذكرت جميلة، تلك الأيام التي كنا فيها طلبة في المدارس الابتدائية والمتوسطة نتغنى باسم ثوار الجزائر: جميلة بوحيرد، والأحرار الخمسة الذين كانت تعتقلهم فرنسا «أحمد بن بيلا، ومحمد بوضياف، وحسين آيت أحمد، ويوسف خيضر، ومصطفى الأشرف»، والأغنية الشهيرة التي كانت تبثها إذاعة «صوت العرب»:

«وحق الأحرار الخمسة

ما نسيبش الثار يا فرنسا»

تذكرت كل ذلك، وأنا أقرأ قبل أيام خبر استغاثة بعثت بها المجاهدة الجزائرية جميلة بوحيرد، تطلب فيه من الشعب الجزائري مساعدتها للعلاج بالخارج من عدة أمراض تعاني منها، فهذه المناضلة التي لجأت إلى الصمت منذ تحرير الجزائر، ولم تزاحم - كما يفعل الكثير من الثوار - على اقتسام السلطة، أو الشهرة، أو النفوذ، مقتنعة بمبدأ أن للثورة رجالا، وأن لبناء الدولة رجالا آخرين، كان يفترض أن تعيش حياة تليق بمناضلة حملت روحها على كفها من أجل عيون وطنها، لا أن تضطر أو تجبر على الاستغاثة، وإن كان من حقها على الشعب الجزائري أن تلجأ إليه، وهو المدين لها بالوفاء.

ربما تعتبر جميلة بوحيرد من ضمن قلة قليلة جدا في عالمنا العربي ممن ناضلوا لتحرير بلادهم، ولم يطمحوا في نهاية المطاف لقبض ثمن نضالهم مناصب، وسلطة، وتميزا، والذي يمثل جزءا من إشكالية الزعامة في بعض عالمنا العربي، فلقد عاشت جميلة بعد تحرير الجزائر حياة عادية في شقة صغيرة، تنعم برؤية بلادها حرة مستقلة، قضت حياتها بعيدة عن كاميرات المصورين، وشاشات الفضائيات، واحتفالات الثوار، ولقاءات السير والذكريات. إنها امرأة عربية أبية قدمت كل شيء، وزهدت في الحصول على أي شيء، وسيتنبه لها الإعلام العربي الذي لا يحتفي بغير الموتى ذات يوم إن غيبها الموت، يومها سيقول الإعلام عنها الكثير، سيودعها بالدموع وبالقصائد، سيقول عنها إنها امرأة من نوع نادر، ومعدن نفيس، وستمد لهم لسانها من داخل كفنها لو استطاعت لتقول: ثكلتكم أقلامكم يا من لا تمجدون الحياة، ولا تحتفون بغير الموتى.