العراق: من الأمن المفقود إلى الأمن المخترق

TT

لكي نغالب جثوم اليأس ونحول دون إطباقه لا بد أن نلتفت إلى الوراء، النظرة إلى الوراء هي ليست دعوة ارتدادية، بل للمقارنة ولمعرفة حجم المتحقق ليعيننا على الصبر ويبقي جذوة الأمل، هذا لا يعني الركون للراهن المختل ولا ينفي بأن العراقي آن له ويستحق أن يعيش كباقي شعوب الأرض بالتمتع بحد مقبول من الأمن والاستقرار، ولا هو تبرير للتفريط بما يفترض من تراكم السنين والخبرات والقدرات، ولا ضياع للإيثار الجمعي الذي قدم وفضل إنفاقات الأمن والعسكرة على لقمة العيش والسكن والصحة والتعليم، العودة للماضي القريب تكشف لنا بأن الأمن في العراق هو ليس كما يصفه المتحاملون أو المتشائمون بالمتدهور بل هو بتوصيف أكثر إنصافا انتقل من مرحلة الأمن المفقود إلى الأمن المخترق.

ففي عام 2006 يذكر الجميع أن العراق كان على حافة الفشل كدولة، وفي أعقاب شباط من العام نفسه كان على حافة الانهيار كمجتمع، فقد كان على شفا حرب أهلية بعد تفجير مرقد الإمامين في سامراء تلك الحرب التي وقعت ولم يكن يعوزها إلا الإعلان فقط، يذكر العراقيون ما أعقبها من العزل الطائفي الذي تم وكيف كان التنقل بين أحياء بغداد يتطلب أن يحمل الشخص هويتين واسمين ليحتاط لكي لا يقع بيد الآخر المغاير فيقتل، كانت بغداد تصحو يومياً على عدد من الجثث مجهولة الهوية والتي لم يكن يجرؤ أهلها حتى للوصول إلى دائرة الطب العدلي لاستلامها، أجزاء من العاصمة كانت ساقطة بيد الإرهاب كشارع حيفا الذي لم يكن يبعد أكثر من 500 متر عن وزارة الدفاع وعن المنطقة الخضراء التي فيها مقرات الحكومة، بل وصل بالإنسان أن لا يجرؤ على إخراج رأسه من نافذة منزله خوفاً من قناص يصطاد ضحاياه عشوائياً، بغداد كانت معزولة من جهاتها الأربع عن باقي العراق بمثلثات الموت التي تقطعها والتي كانت لا تبعد عن مركز العاصمة أكثر من عشرين كيلومترا، الطيران الشحيح والنادر كان يهبط ويقلع بشكل حلزوني لصغر الدائرة التي أمكن تأمينها من إطلاق الصواريخ، الطرق البرية الرابطة مع دول الجوار كان التنقل بها مغامرة معروفة العواقب المأساوية سلفاً، البضائع والنفط المنقول لكي يصل وجهته يدفع إتاوات في كل منطقة يمر بها، مدن بكاملها ومناطق كانت تحكم من قبل الإرهاب، بالمجمل لم تكن هناك دولة ممكن للعراقيين أن يدينوا لها بالولاء والتي عجزت وغابت عن توفير واجب الحماية لهم فلاذوا بروابطهم الأولية من طائفة وقبيلة للاحتماء بها، فظل ابن المدينة الأكثر هشاشة وانتهاكاً كونه قد غادر هذه الروابط منذ زمن وركن إلى حماية القانون فكان بديله التهجير والمنافي، بل إن حتى الثقة بنشوء تلك الدولة يوماً قد أوشكت على الانعدام، هذه المظاهر تظافرت على إنهائها عوامل عدة فمنذ مطلع عام 2008 لم يعد الإرهاب بعدها يسيطر على شارع بل ولا حتى على بناية واحدة في طول العراق وعرضه، فالحياة عادت لطبيعتها وفي اغلب مفاصلها وأهمها انتهاء الصفحة الأخطر وهي العنف الطائفي والتي كادت أن تؤدي بالبلد إلى التشظي والمنطقة المحيطة برمتها إلى التفجر والأزمات.

لكن التحدي الكبير الذي برز بعد ذاك هو إيصال ذلك التقدم إلى نقطة ومستوى النجاح الدائم، ثم بعدها تواضعت الأماني وأصبح الهدف الأكثر منالا وواقعية هو تقليل العنف إلى المستويات التي تسمح للمجتمع المدني والاقتصاد بالتحرك والعمل، وهنا تحديداً حرك الإرهاب أهدافه وفقاً لذلك فبات مؤخراً يعمل على تقويض ذلك بإحداث ضربات نوعية تتصف بالتدميرية والإيقاع الإعلامي العاليين، بقذفه لكرة من اللهب تستهدف الكم الكبير من الأبرياء بشظاياها، يوازيها، وبشكل لافت ونافر، كرة أخرى من الثلج باتت تكبر بتدحرجها بين القوى السياسية المتصارعة، فمنهم من بقصدية وآخرون بسذاجة بات يكمل الجزء الأخطر من هذا المخطط الإرهابي بتحويله لاتجاهات اللوم وردود الأفعال وارتدادات الحدث، فبدل أن يتوجه اللوم بديهياً وكما يفترض إلى الفاعلين أصبح يوجه إلى الحكومة، بل إن هذا الدم المسال عجز أن يستصرخ ويستحث السياسيين على التوحد والتكتل ضد قتلة شعبهم هؤلاء الأبرياء الذين يفتدونهم يومياً بدفعهم لأرواحهم ثمناً لاستهداف عملية سياسية يوعدون يوماً عسى أن ينتفعوا بها، في حين من انتفع بها من السياسيين باتوا يستثمرون سياسياً وانتخابياً حتى في التأزم الأمني وفي مصائب أهلهم، هذا المنهج يتعاظم كلما كانت استراتيجية هذا البعض تقوم بالمراهنة على فشل الآخر، وترتكز على الإعاقة لا البناء.

على الجانب الآخر فإنه بعد أن تضافرت عوامل كثيرة وهزمت الإرهاب وحرمته من أن يمسك بالأرض، فلجأ لتحريك تكتيكه باتجاه ضربات متباعدة لكنها نوعية منتقاة، فكان يستلزم بالمقابل أن تتكيف معها أساليب المواجهة وليس الركون إلى عسكرة البلد وكأنه متأهب لقتال شوارع، فمسألة الوزراء الأمنيين وقادة الأجهزة أمام البرلمان كشفت عن اختلالات واضحة في التنسيق وعن تنافس مؤذ على الصلاحيات والسلطات وعن تشتت في القدرات، ناهيك عن الخلافات التي تستبطن دوافع وطموحات انتخابية وفي إخفاق عن الإبعاد التام لهذه الأجهزة عن الصراعات السياسية، فالمعركة كما استخلص الجميع هي استخباراتية كونها وحدها تيسر إجهاض هذه العمليات قبل وقوعها لا أن يظل صدر المواطن مصدها الوحيد، وهنا تحديدا ثبت النقص والهشاشة ولا يوجد قريب أمل على تجاوزه، لذا حتى ذلك الحين سيظل الأمن على أحسن الفروض مخترق.