أستحق أن «يقام عليّ الحد»

TT

من الأشياء التي ندمت عليها حيث لا ينفع الندم الآن، وذلك عندما فرّطت بأثر تاريخي نتيجة لطمعي الذي لازمني طوال حياتي ولا زال يلازمني حتى كتابة هذه السطور، ولا أستبعد أنه سوف يرافقني إلى أن يدفن معي في القبر، غير مأسوف علينا نحن الاثنين، وهذا اعتراف صريح منّي لا أنكره - وأنا بالمناسبة (ملك الاعترافات) الهوائية.

الحكاية وما فيها يا سيداتي ويا سادتي، أنه قبل ما يزيد عن خمسة وعشرين عاما أتاني في شقتي المتواضعة رجل يمني أعرفه، وعرض عليّ مخطوطة من القرآن الكريم، وهي عبارة عن أربع صفحات متلاصقة من مخطوط على جلد الغزال، ولكي أضعكم جيدا بالصورة، فتلك الصفحات منزوعة من مصحف يعتقد أنه أول مصحف وصل إلى اليمن، والدلالة على ذلك أنه مكتوب قبل أن يبدأ (التنقيط) على الحروف العربية، وهذا المصحف كان مخبوءا في حائط من حوائط أقدم مسجد في صنعاء، وقد هدم ذلك المسجد في السبعينات ووجد فيه ذلك الأثر الثمين، ولا أدري كيف استطاع ذلك الرجل أن يحصل على تلك الصفحات.

الواقع أنني فرحت بها كثيرا، وحيث إن الرجل لم يعرف أهميتها فقد ساومته عليها ودفعت له ثمنا بخسا، وذهب المسكين في حال سبيله.

ومرّت الأيام وتعرفت أثناءها على رجل أعمال ثري له (شنّة ورنّة)، وبما أنني أسعد بالتعرف على مثل هذه النماذج (المدهنة) فقد تعلقت به جدا، وأصبحت أرتاد مجالسه، وعرفت منه يوما أنه سوف يسافر إلى بلد غربي لمقابلة (مليونير) من أساطين رجال المال في أوروبا لعقد صفقة تجارية مهمة معه، وهو محتار بنوعية الهدية الملائمة التي سوف يقدمها له، وفكر أن يقدم له سيفا مذهبا، غير أن طمعي الذي حدثتكم عنه تدخل في الموضوع فقلت له: إن مثل هؤلاء الناس لا يأبهون كثيرا بمثل هذه الهدية التي تريد أن تقدمها له، فلديهم من الأموال والذهب والمجوهرات الشيء الكثير، ولو أنك قدمت له هدية لا تخطر له على بال فلا شك أنها سوف تكون مؤثرة أكثر.

وسألني: ماذا تقترح؟!

قلت له: إن لدي مخطوطة نادرة من القرآن يزيد عمرها عن (1300 سنة)، وإنني بدوري أقدمها لك دون مقابل (كرمال عيونك) الحلوة، لتهديها له، وفعلا أعطيته إياها وشكرني شكرا جزيلا، ووضعها في علبة ذهبية مخمليّة ثمينة وسافر إلى هناك تحفه دعواتي المباركات لإتمام صفقته التجارية التي كنت آمل أن ينالني على الأقل (طرطوشة) صغيرة منها.

وجلست على أحر من الجمر أتتبع أخبار الصفقة التي علمت أنها تمت هناك بنجاح، فرقصت فرحا وأقمت بهذه المناسبة وليمة دعوت لها مجموعة من الأصدقاء (الفقايريّة) الذين أكلوا وشربوا إلى حد التخمة ولم يخرجوا من شقتي إلا بعد ما أذن الفجر قائلا الله أكبر.

وفي اليوم الثاني اتصلت تليفونيا بذلك التاجر أهنئه على تلك الصفقة، وقال لي بالحرف الواحد: هل تصدق يا مشعل أن ذلك المليونير عندما قدمت له تلك الهدية أخذني بالأحضان من شدة فرحته وتقديره لها؟!

لم أنم في تلك الليلة من شدة غبطتي معتقدا أن (السنّارة غمزت)، وأنك يا أبو المشاعل سوف ترفل بـ«الدمقس وبالحرير».

وعندما عاد ذلك التاجر من رحلته الميمونة الموفقة كنت أول المستقبلين له بالمطار، ومر يوم وشهر وسنة، وأنا أتردد على قصره العامر، ولكنني في النهاية لم أنل لا عنب الشام ولا بلح اليمن، بل إنه بدأ يضيق بي ذرعا. وكدت أجن عندما قرأت قبل أشهر في إحدى الجرائد أن صفحة واحدة من ذلك المصحف القديم قد بيعت بالمزاد في (سوذبي) بلندن «بخمسمائة ألف جنيه»!!

أعتقد أنني أستحق عن جدارة أن «يقام عليّ الحد»، ووالله، ثم والله، إنني لن أعارض.

[email protected]