رجال يُعنفُون أنفسهم

TT

تتعدد أشكال التعنيف فنجد المباشر اللفظي أو الجسدي ونجد أيضا الرمزي المعنوي وتصعب إقامة أي مفاضلة بين هذه الأنواع لتوفر نفس المرارة والضرر. وقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة في مراكز الأبحاث والندوات ووسائل الإعلام عن ظاهرة تعنيف النساء، حتى أضحت رغم أهميتها وخطورتها لا تستأثر بالانتباه اللازم من فرط تكرار طرحها بنفس الرؤية والمقاربة وتناولها بشكل يطغى عليه خطاب الأخلاق والموعظة، دون التأسيس إلى ما يجمع بين التشريع من جهة وبين التنشئة الاجتماعية والتربية على احترام المرأة.

وفي الحقيقة ربما يكون من المفيد التفكير في تعبيرات أخرى لم تُستهلك ولم تُجتر بعد، تصف الظاهرة بأكثر عمقا كالقول مثلا تعنيف الرجال لأنفسهم أو تعنيف المجتمعات لنفسها. فالرجل الذي يُعنف زوجته أو ابنته أو أخته أو زميلته هو في واقع الأمر يُعنف نفسه ويُعبر عن مأزق نفسي ثقافي، يتخبط فيه ولم يجد له مخرجا سوى لغة العنف الدالة على عجز في إقامة حوار وعلى ضعف القدرة على خلق علاقات صحية وجدلية وندية مع الآخر المرأة بوصفها نوعا اجتماعيا يتمايز عنه.

وفي إطار محاولة تطويق الظاهرة، انتظمت مؤخرا في تونس ورشة عربية تحت إشراف منظمة المرأة العربية التي تترأسها حاليا السيدة الأولى بتونس ليلى بن علي. وهدفت هذه الورشة إلى تبادل الخبرات والمعطيات والوقائع في مجال تعنيف النساء في العالم العربي وانتهت برسم إستراتيجية ضد التعنيف. ومن جهتهم تمكن الخبراء المشاركون من ضبط أهم أشكال العنف المسلط والمتمثلة في العنف الأسري والعنف المجتمعي والعنف المؤسسي والعنف الذي تعيشه بؤر التوتر ذات النزاعات المسلحة.

طبعا الشكل الرابع للعنف هو خارج عن النطاق ومجرد الخوض فيه يعد إهدارا للجهد وللتفكير ولكن الأشكال الثلاثة الأخرى هي من صنع المجتمع العربي والمؤسسة العربية. والمثير للاستغراب أنه في الوقت الذي تركز فيه النخب الفكرية والحقوقية على قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والحريات الخاصة والعامة، نجد أن المجتمع يعاني من ظاهرة مغرقة في التخلف، تشير إلى إصابته بشتى أنواع الأمراض المستعصية وعلى رأسها هذه الحرب الأهلية الشرسة بين الرجل والمرأة في مجتمعاتنا: حرب تتخذ مرة لغة العنف بدءا من الضرب وصولا إلى الأبشع، ومرة تركب نمط سلوك رمزي، تكشف عنه مؤشرات القمع والنظرة الدونية وحصرها في بوتقة بيولوجية حسية لا أكثر ولا أقل أي أنه عنف يخلع عن المرأة كينونتها وعقلها وإنسانيتها.

وتفيد مثل هذه المعطيات أننا مازلنا في مرحلة ما قبل الصفر من التقدم الحقيقي ذلك أن المجتمع الذي لم يتجاوز نظرته الدونية للمرأة وما زال يحتكم إلى قيم الذكورية والفحولة في تصوره للأشياء وللحياة ككل هو مجتمع مريض ليس من ناحية علاقته بالمرأة فقط بل إن تأزم العلاقة مع المرأة هو نتاج أزمات متخفية وغير ظاهرة للعيان لعل أهمها الأزمة مع الذات وغياب ثقافة الحوار والنقاش واحترام الآخر بأصنافه المتعددة.

كما أن الالتجاء إلى الضرب والضرب المبرح يعكس حالة الاختناق التي يعيشها المجتمع. فالمجتمع الذي يعرف أحزابا ضعيفة وإعلاما مستقيلا من أدواره وحكما تتوفر فيه خصائص الحكم غير الرشيد هو مجتمع يعيش في حالة اختناق غير محسوسة وهو ما يفسر ظواهر العنف المنتشرة وأولها العنف ضد المرأة الناتج عن عوامل ثقافية واجتماعية واقتصادية ولكن أيضا وفي المقام الجوهري لأسباب سياسية فنرى في شاشة الواقع نساء معنفات، في حين أن ما وراء الشاشة يكشف عن رجال يعنفون أنفسهم ومجتمعات عربية تُعنف نفسها على نحو مازوشي وسادي في ذات الوقت والعنف.