حكومات وشعوب

TT

في أجمل ردّ فعل أوروبي على النتيجة المشينة للاستفتاء السويسري (29 تشرين الثاني 2009)، الذي قضى بحظر بناء المآذن في سويسرا، يقوم الشباب الأوروبي في فيينا وسويسرا عموما، باستخدام صور للمآذن كأساس للزينة المستخدمة في أعياد الميلاد. فقد أخذ هؤلاء الشبان الذين يعتبرون التصويت بحدّ ذاته منافيا لحريّة العبادة، والتي هي حقّ أساسي من حقوق الإنسان، في توزيع ملصقات ملوّنة وبأحجام مختلفة لمآذن على شكل بطاقات معايدة، بالإضافة إلى بناء مجسّمات على أشكال مساجد صغيرة تعلوها مآذن مزخرفة وبأشكال وألوان متنوعة تتدلّى من سقوف حجراتهم وصالات تجمعاتهم وكأنها ثريات، رافعين معها شعار «فلتزيّن سقفي مئذنة». كما أصبح عدد من الشباب السويسريين من أشدّ المتحمسين لفكرة المآذن، ليس فقط كزينة لأعياد الميلاد، بل بما في ذلك صنعها كحلويات من الشيكولاته ومخبوزات تدخل في صنعها المكسرات وجوز الهند، وتفوح منها النكهات الشرقية، بدلا من تلك الصور التي نشرها العنصريون المتطرفون، حيث تبدو المآذن صواريخ حربية على وشك الانطلاق، خلال الاستفتاء السويسري على حرمان المسلمين من حق من حقوق الإنسان، وهذا أغرب استفتاء. إذ كيف لأي حكومة أوروبية أن تستفتي على حرمان فئة دينية أو عرقية حقا من حقوقها؟

علّ هذا الاستفتاء وغيره من القرارات الحكومية بمنع الحجاب أو بناء المساجد، أحدث الأمثلة على أن الحكومات الغربية لا تقدّر حجم الألم والمعاناة التي تسببها للأقليات والشعوب المسلمة، فهذه السياسات والإجراءات تؤشر للطغيان وليس للديمقراطية، والتعصّب الديني وليس للعلمانية.

وفي خضم تنفيذ مثل هذه السياسات التي لا تعبّر عن أي إحساس حقيقي بالعدالة، ولا تنسجم مع قيم الديمقراطية المترسخة في الضمير الشعبي في الغرب، نجد أنّ فئات واسعة من الشعوب الغربية نفسها تبتعد شيئا فشيئا عن مثل هذه الخطط المتشددة، والمقولات المتعصّبة والسياسات التي تذكرنا بالأبارتايد التي تتبناها حكوماتها، إلى درجة يمكن أن نتحدث فيها عن أزمة مصداقية جوهرية تسود العلاقة بين الشعوب والحكومات في العالم الغربي.

وعلّ أحدث مثال على الفجوة الأخلاقية بين الشعوب وحكوماتها، هو ما حدث لتسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة المتورطة بجرائم الاغتيال وهدم المنازل والتعذيب، والتي ما زالت تفاخر حتى اليوم بدورها في قتل أكثر من 1400 من النساء والأطفال والمدنيين وهم نيام في منازلهم التي دمّرتها الطائرات الإسرائيلية على رؤوسهم في غزة.

فقد تمكّنت مجموعات حقوقية، من استصدار أمر قضائي من المحاكم البريطانية لإلقاء القبض على ليفني باعتبارها متورّطة في جرائم حرب ضد المدنيين.

إننا نستذكر أن شامير الذي أصبح رئيسا لوزراء إسرائيل كان قد عمّمت صورته كإرهابي وتحتها عبارة «مطلوب»، وذلك لدوره في قتل المبعوث الدولي الكونت بيرنادوت وغيره من المدنيين، ولكن الحكومات الغربية كانت تستقبله بحفاوة كرئيس حكومة وتمنحه الحصانة من المحاكمة على الجرائم التي ارتكبها بيديه.

ولكن ومهما يكن من أمر، فإن بعض الساسة البريطانيين بدأوا بتقديم الاعتذارات المشينة إلى ليفني المتورطة بجرائم حرب واغتيال، والتأكيد لها بأنها «شخص مرحّب به لدى الحكومة البريطانية». وحملت الأنباء عزم هذه الحكومة على «تغيير القوانين» كي لا يتم اعتقال مسؤولين إسرائيليين متّهمين بارتكاب جرائم حرب، بينما تستمر جمعيات حقوق الإنسان ونقابات حقوقية ومجموعات مؤيدة للعدالة، بالمطالبة الحثيثة والنشاط الإعلامي كي يتم القبض على مجرمي الحرب وقاتلي الأطفال.

هنا تظهر فجوة حقيقية بين حكومات ما زالت تحاول ممالأة مجرمي الحرب الإسرائيليين، غير مدركين أن حس العدالة يملأ عقول وقلوب البشر في كل مكان، خاصة بعد أن شاهد العالم بأمّ عينه جرائم حكام إسرائيل في مجزرة قانا الأولى في لبنان عام 1996، ومجزرة قانا الثانية في عام 2006، اللتين راح ضحيتهما أطفال ونساء، كما شاهدت الشعوب الجرائم التي ارتكبها حكّام إسرائيل ضد المدنيين ومنازلهم ومدارسهم وجسورهم في لبنان عام 2006، وتكررّ المشهد الإجرامي الدّامي في غزة، ولم يعد أحد قادرا اليوم على إنكار حقيقة جرائم الحرب الإسرائيلية التي يفلت فيها من العقاب، المجرمون من السياسيين العسكريين الإسرائيليين، ولذلك يكرّرون ارتكاب هذه الجرائم. ولكنّ الشعوب ما زالت تبحث عن الأسلوب الأنجع لوضع حدّ لهذه الجرائم، فيما تسعى الحكومات الغربية، لأسبابها الخاصة، إلى التغطية على المجرمين، بل وممالأتهم وتزويدهم بأحدث القنابل الفوسفورية والعنقودية وبترسانة نووية وصاروخية وجوية لارتكاب جرائم الحرب ضد المدنيين. فها هي أيضا مجموعات بريطانية نشطة تستصدر قرارا تُلزم فيه محلات البيع بالتمييز بين البضائع الإسرائيلية القادمة من المستوطنات وغيرها، كما أثار عدد من اليهود المؤيدين للحق الفلسطيني وغيرهم من المسيحيين والمسلمين في الجامعات البريطانية منذ فترة بداية حملة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية من أجل إرغام إسرائيل للانصياع لمتطلبات السلام. وقد اعتبرت الصحف الإسرائيلية في حينه أن هذه الحملة غير مسبوقة ويجب مناهضتها بشتى السبل، وأن الحديث عن المقاطعة يجب أن يكون من المحرمات.

على الحكومات الغربية الكف عن استخدام عبارات «الحضّ» و«الانتقاد» و«التشجيع» التي لا يسمعها حكام إسرائيل والسماح لشعوبها بمحاسبة الطغاة.

لا شك أن الجرائم التي يرتكبها حكام إسرائيل، مثل ليفني ونتنياهو، يوميا ضد المدنيين الفلسطينيين من خلال هدم المنازل، والقتل، والتعذيب، والحصار القاتل، الذي ما زالوا يفرضونه بالتعاون مع حلفائهم على مليون من المدنيين العزّل في غزة، ورغم التعتيم الإعلامي الذي يتبعونه واغتيال الإعلاميين والتنكيل بهم، قد بدأت تصل إلى ضمائر الشعوب، ولذلك فإن المتوقع هو أن تزداد البيانات القضائية لإلقاء القبض على مجرمي الحرب الإسرائيليين حيثما توجهوا، ولن تتمكن حتى الحكومات المتواطئة مع هؤلاء المجرمين من إخماد صوت شعوبهم.

الكثير من شرفاء العالم قد تفوّقوا على بعض العرب في مواقفهم النبيلة دفاعا عن حق الشعب الفلسطيني في الحريّة، فقد أصبحت قضية فلسطين قضية عدالة للعالم، وسوف ينضم إليها عاجلا أو آجلا، كل شرفاء العالم، وسوف ينتهي الأمر بحصول الشعب الفلسطيني على حريّته وعلى حقوقه العادلة، تماما كما انتهى الأمر بنصرة شعب جنوب أفريقيا بعد عقود من القهر العنصري البغيض. ما يفعله إذن بعض حكام العالم الغربي بممالأتهم مجرمي الحرب، رغم انكشاف حقيقتهم للجميع، هو أنهم يطيلون أمد الصراع والمعاناة والألم ولا يكسبون سوى عار التواطؤ مع مجرمي حرب وطغاة دمويين يفخرون علنا، كما فعلت ليفني أخيرا، بقتل مئات الأطفال والنساء.

لنقرأ ما كتبه رئيس الوزراء الهولندي السابق دريس فان آخت، الذي أسس مع وزيري الخارجية السابقين هانس فان وم برويك، وهانس فان ميرلو، مجموعة للدفاع عن حقوق الفلسطينيين: «لفترة طويلة اعتقدت أن إسرائيل لا يمكنها أن ترتكب خطأ وكان هذا فشلي، والحقيقة مختلفة تماما». يكتشف آخت وغيره من الغربيين أن قيام إسرائيل يمثل كارثة بالنسبة للملايين من الفلسطينيين الذين يعانون منذ ستين عاما من القهر والقتل والاضطهاد العنصري.

لقد بدأ الأحرار بالاهتمام بعمق المعاناة الإنسانية في فلسطين، وأخذت شعوب العالم تطلع على حقيقة هذه المعاناة، وتأخذ مواقفها المؤيدة لعدالة هذه القضية لا فرق في ذلك بين مسلم ومسيحي ويهودي. وكانت مجموعات الضغط الصهيونية نجحت حتى أخيرا، عبر تمويل الحملات الانتخابية للسياسيين الغربيين وكسب الانتهازيين منهم، والتعتيم على الحقائق وتشويهها، في تضليل الرأي العام الغربي عن حقيقة هذا الصراع، ولكن لا مستقبل لهذا التضليل، ولا لمن يؤيدونه خوفا أو ممالأة أو عنصرية. ولن تتمكن كل الجدران العنصرية، وكل أساليب الحصار الظالمة من أن تمنع صرخات أطفال فلسطين المظلومين والمقهورين من الوصول إلى قلوب البشر، كيف لا وفلسطين هي أرض المسيح وعذاباته، وسيشهد العالم نهاية عذابات أهل فلسطين مهما تجبّر مجرمو الحرب والمتواطئون معهم، ولكن وفي هذه الأثناء يكتشف العالم أزمة حكم، وأزمة ديمقراطية، وأزمة قيم، وأزمة مصداقية بين القول والفعل، وبين من يدّعي تمثيل الشعوب من جهة، وبين حقيقة مشاعر وقناعات وطموحات هذه الشعوب.