الحريري في دمشق.. ماذا بعد؟

TT

«إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفسهِمْ»

(صدق الله العظيم)

(سورة الرعد)

جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري ورفاقه، اتسمت ضمن ما اتسمت به بـ«شخصنة» شديدة. وكان البعد الشخصي فيها بديهيا.

فجريمة الاغتيال حدثت وسط حالة من العداء الشخصي الحاد بين المؤسسة السياسية الأمنية التي بنتها دمشق في لبنان على امتداد 15 سنة والتوجه الذي كان الحريري أحد أبرز وجوهه، رغم أنه لم يكن الأكثر حدة فيه. كما سبق الاغتيال وواكبه وتلاه تبادل نوبات من العداء والاتهامات والتخوين قلما شهد لبنان في تاريخه المعاصر شبيها لها.

لا شك أن الخلاف بين ما مثلته دمشق ولا تزال تمثله، وبين ما مثلته ولا تزال مجموعة من التيارات والقوى السياسية اللبنانية، خلاف في جوهره سياسي بامتياز. فالثقافة السياسية التي تروج لها دمشق داخل سورية وخارجها ثقافة تتخذ من «الخيمة القومية الواسعة» ذريعة.. إما لممارسة «سياسة شفير الهاوية» إقليميا، بما في ذلك الإمساك بالكثير من الأوراق لاستخدام الموافق منها في هذه المرحلة أو تلك، أو لتأكيد أن واقع التجزئة بما يتعلق بلبنان، بالذات، «خطأ تاريخي» يجب تصحيحه بالصورة المناسبة لها.

بل إن «الطرح القومي» لدمشق، في ظل استمرار التذكير بوجود تحدٍ قومي مصيري يتمثل في إسرائيل، يستوجب تناسي بعض الأمور التفصيلية كالانفتاح والتعددية السياسية والديمقراطية وتأجيلها، طالما أن مقتضيات النضال و«الممانعة» بحاجة إلى «حالة طوارئ» تتخلل جبهويا كل مناحي الحياة.

في المقابل، تشكل الحالة اللبنانية بانفتاحها وتعدديتها المبالغ فيهما نقيضا مخيفا للحالة السورية.. لكنهما تلتقيان في الخلاصة النهائية، وهي انعدام الشروط اللازمة للديمقراطية.

ففي دمشق قامت فلسفة الحكم على تغليب أولويتي الحزم والولاء المطلق لضمان الإمساك بالأمن والابتعاد عن الفوضى التي تهدد الحكم.

وفي المقابل، دمر اللبنانيون لفرديتهم وعشائريتهم و«عداء النكاية والإلغاء» المتأصل في كل تجمع سياسي أو طائفي نما في أرضهم, أي فرصة لنشوء ديمقراطية صحيحة تستند إلى البرامج والالتزام وتحمل مسؤولية الموقف واحترام المواطنين.. الذين يتاجر الساسة المحترفون بغرائزهم يوميا.

وعليه، نجد أنفسنا اليوم أمام «حالتين» متناقضتين أفضتا إلى تعايش غريب، أسهمت في فرضه الظروف الدولية. واليوم، ليس ثمة ضمانة في أن الظروف الدولية التي كسرت الحاجز النفسي والشخصي لن تحمل العلاقات السورية - اللبنانية إلى مرحلة أبعد، وتمس ما بدا ولو لبضعة أشهر خلت من المحظورات، كمصير المحكمة الدولية المشكلة للنظر باغتيال رفيق الحريري ورفاقه.

كان بعض اللبنانيين يتوقعون أن يصل سيناريو «اللامعقول» إلى المحطة التي بلغها مع لقاء الرئيس بشار الأسد ورئيس الوزراء سعد الحريري، وذلك لأنهم أدركوا منذ زمن غير قصير طريقة تفكير القوى الكبرى، وعرفوا مركزية القرار الإسرائيلي إزاء مستقبل الشرق الأوسط في كل العواصم الغربية الفاعلة. وبالتالي، لدى رصدهم التوجه الاستراتيجي الإسرائيلي، أيقنوا أن الخيارات واضحة، وأن كل الكلام الذي يطلق عن «دعم سيادة لبنان واستقلاله» في سياقه السوري لا يساوي شيئا.. تماما عندما كان يتكرر في كل مرة تعربد فيها إسرائيل ضد لبنان وتضرب وتختل. فالكلام شيء والفعل شيء آخر. ولبنان، كما تكشف من الموقف الفرنسي بالذات، لا يستحق إرباك الاستراتيجيات الإقليمية من أجله. واللبنانيون أيضا لا يستحقون المجازفة بمصالح أكبر منهم.. وبخاصة إذا كانوا هم أيضا آخر همهم ما يحل بكيانهم.

الفئة الثانية من اللبنانيين كانت أقل تشكيكا بنيّات المجتمع الدولي والعواصم الغربية، من منطلق أن «معطيات اليوم تختلف عن معطيات الأمس»، وأن عهد تعايش الديمقراطيات الغربية مع الأنظمة التي لا تمارس الديمقراطية ولّى إلى غير رجعة. ولعل ما دفع إلى هذا التفاؤل الساذج الذي أثبتت التجربة أنه في غير موضعه، من حماية البيئة إلى حقوق الإنسان، هو الثقة المفرطة بأن الديمقراطيات لا بد أن تنتج نمطا من «أخلاقيات التعامل» مع الآخرين، فلا تمارس التمييز العنصري أو العرقي أو الديني بين من هو جدير بالحرية ومن ليس جديرا بها.

أما الفئة الثالثة، فهي تلك التي تضم قطاعا واسعا من الشعب اللبناني صدّق حقا أنه سيسمح له بالتغيير.. وأن عند قادته وضوح الرؤية وشجاعة المصارحة وصدق الالتزام وعمق استيعاب المناخ الذي ساعد على تكوين ما سمي بـ«انتفاضة الاستقلال».

«انتفاضة الاستقلال» كانت حدثا تعاونت على توليده جملة عناصر كان من الضروري توافرها لتوليده.. في مقدمها أن فكرة الوطن، أي وطن كان، في أي مكان من العالم بحاجة إلى إيمان متوازٍ ومتساوٍ به عند كل مكوناته السكانية. وما أسهم في النجاح الأولي لـ«الانتفاضة» أن معظم مكونات الكيان ـ المصنوع أصلا عام 1920 لصالح مكون واحد ـ آمنت بها بالمقدار نفسه.

غير أن ما حدث بعد ذلك، كما يتضح اليوم، كان متوقعا.. إن لم يكن طبيعيا. فالقوى التي استفادت استراتيجيا وتكتيكيا من 15 سنة من الاحتضان العسكري والأمني السوري، ورسّخت أقدامها في البنية الأمنية وشبكة المصالح السياسية العليا التي تخدمها تلك البنية، استوعبت الصدمة. ومن ثم أطلقت «انتفاضة مضادة»، جزء منها مكشوف عبر القوى الحليفة علنا.. والجزء الآخر كان «الطابور الخامس» الاحتياطي الذي انشق في الوقت المناسب عن قوى «انتفاضة الاستقلال» وأوجد لنفسه ولشارعه الطائفي مبررات انشقاقه وتحالفاته الجديدة.

أما قوى «انتفاضة الاستقلال»، المتنافرة الأهواء والأولويات قبل 14 فبراير (شباط) 2005، فانكفأ كل منها لاحقا إلى قاعدته الطائفية والمصلحية. وأخذ يتصرف على أساس وهم أن الأطراف الأخرى ألغت ماضيها السياسي برمته.. وجاءت معتذرة صاغرة إلى مواقعه.

لم يكترث أحد يومذاك بالإحراج الذي يمكن لنهج من هذا النوع أن يسببه. أو أي تسويغ يمكن أن يقدمه لأي انسحاب مستقبلي من الجبهة الاستقلالية الواحدة. لكن هذا بالضبط ما حدث، بعد سلسلة من خيبات الأمل المتبادلة في صفوف «الحلفاء الاستقلاليين».

اليوم فتحت صفحة علاقات جديدة بين دمشق وبيروت. لكن المؤسف أن أحدا لا يستطيع أن يجزم بثقة: ماذا ستحمل هذه الصفحة الجديدة؟.. كيف ستغير؟.. ومن ستغير؟.