أمين الحافظ.. «القبضاي» الذي عسكر الآيديولوجيا

TT

مات أكرم الحوراني على رابية من روابي عمّان. لم يَدْرِ العرب برحيل صانع الرؤساء والحكومات في سورية، على مدى يقرب من عشرين سنة. كان العرب في يوم وفاته مشغولين بجريمة قتل صدام لصهريه حسين وصدام كامل.

منذ أيام، مات أبو عبده «العسكري القبضاي» الذي حكم سورية في ذروة السنين التي عصفت بها في الستينات. تقاطر الزعماء. تزاحم الساسة العرب على «باب الحارة»، لتعزية الرئيس بشار، ليس بالرئيس الأسبق الفريق أمين حافظ، إنما بشقيق بشار الأصغر. عاش مجد الأسد حياته (37 سنة) مُعاقا. لم يعرفه قط أحد من المعزِّين أو السوريين. تفضل الصديق سركيس سركيس ناشر مذكرات الحوراني. أهداني أجزاء المذكرات الأربعة. لعل القارئ يذكر أن «الشرق الأوسط» نشرت معظم المذكرات على حلقات. وحرصت على التعليق على كل حلقة.

كتب الحوراني أهم مذكرات في تاريخ العرب الحديث، على الرغم من إغفال دوره الكبير في تسييس الجيش السوري. عندما ندم. حاول تجديد إيمانه بالديمقراطية. كان الأوان قد فات. فقد أطاح بالزعيم الاشتراكي (1963) ضباطُ الطائفة التي عَسْكَرَها، منتصرا لفلاحيها، نكايةً بإقطاعيي مدينته «حماه» الذين عاملوا فلاحيهم العلويين معاملة الأَرِقَّاء، على مدى قرون طويلة.

أشعر بأسى عميق عندما أقيِّم وأنتقد مواقف أكرم الحوراني. لي معه ذكريات في دمشق. لي معه جلسات طويلة في منزله، في الضاحية الباريسية. عندما أكتب عنه، أقدّم على صداقتي معه، أمانتي كشاهد محايد على التاريخ، شاهد يروي للأجيال الجديدة شيئا، عن ماضيها السياسي الذي لا تعرفه.

ندم الحوراني على تسييس الجيش. نكايةً بعبد الناصر الذي هَمَّشَه، ولم يعرف قدره في زمن الوحدة، فقد وقع وثيقة الانفصال التي صاغها صلاح البيطار. ندم البيطار. لم يندم الحوراني. مضى قُدُما. شكل الواجهة السياسية لنظام الانفصال، فيما شكل الإخوان المسلمون واجهته الشعبية ضد الشارع الناصري.

حتى بعد سقوطه المُدَوِّي، ظل الحوراني يلاحق عبد الناصر. عجل بإنهائه. ظل يذكّر العرب بأن القوات الدولية تحتل سيناء. أبت كبرياء عبد الناصر إلا بسحب هذه القوات، مُهَيِّئا الفرصة لإسرائيل لضربه وهزيمته، فيما كانت قواته غير مستعدة. كانت مشغولة باليمن، على بعد ثلاثة آلاف كيلومتر عن مصر.

التاريخ العربي المعاصر يُعاني من فقر شديد. تظل أحداثه ومسيرته مجهولةً في ملابساتها. في الغرب، ما من فاصلة تاريخية، إلا ويجري تحليلها. ما من سياسي يبرز. يصل. يغيب، إلا وتصدر عنه عشرات الكتب. الماضي القريب ماثل دائما في ذهن الحاضر. في مخيلة واهتمام الأجيال الجديدة.

عندنا، الخوف من سلطة الحاضر يمنع السياسي من كتابة مذكراته. الخوف يردع المؤلف والمفكر والباحث عن تناول التاريخ. إذا فعل، غالبا، يقدمه مشوها. مجتزأ. أو يبقيه منسيا. الدولة العربية لا تنشر وثائقها، كما تفعل الديمقراطيات الغربية التي تقدم ذاكرتها الرسمية، إلى المؤرخين والصحافيين، لإطلاع الأجيال الجديدة عليها. أمة بلا ذاكرة. أمة مشوَّهة. بلا شخصية. أمة تفقد توازنها. لا تدرك مزاياها وأخطاءها.

في غيبة المعرفة بالتاريخ، أضحكني شاب لبناني. سألني مستغربا: هل يموت أمين الحافظ مرتين؟! مات أمين الحافظ اللبناني في يوليو من العام الماضي. الجيل الجديد لا يعرف أن هناك سياسيا آخر اسمه أمين الحافظ. لا يعرف البون الشاسع بين اللبناني المثقف أمين الحافظ، و«القبضاي» أمين الحافظ الآتي من باب الحارة الحلبية، الضابط «الفهلوي» الذي عسكر الآيديولوجيا، بعد الضباط الثلاثة (حسني الزعيم. سامي الحناوي. أديب الشيشكلي الثلاثة أعدموا أو اغتيلوا) الذين قادوا انقلابات كلاسيكية غير مُؤَدْلَجَة.

لم أعرف الفريق أمين الحافظ معرفتي بالحوراني. كصحافي وكمراسل، كنت أراه وأتحدث إليه مع الزملاء يوميا في سراي الحكومة القديم. يخرج أبو عبده من مكتبه، بعنترية شيخ شباب الحارة (كما في مسلسل «باب الحارة» الشهير) لكن بملابس الميدان القتالية. يُرغي ويُزبد أمامنا. مهددا الناصريين والرجعيين بالسحق والمحق، مصدرا بحذائه العسكري على بلاط السراي الرخامي، صريرا مقززا للنفس. ثم يدور حول نفسه، مطلقا قهقهة مدوِّية من شدق تمساح.

ماذا عن فكر وثقافة ضابط الآيديولوجيا الذي تحول من نصير لـ«الكتلة الوطنية»، التي قادت النضال ضد الاستعمار، إلى منحاز معجب بأكرم الحوراني الذي دفعه إلى الجيش في الأربعينيات؟ الصورة «البانورامية» التي قدمتها عنه، تجسدت في الفراغ الثقافي والفكري الذي طبعه أمين الحافظ في مخيلة الملايين من جمهور التلفزيون، وهو يتحدث في التسعينات، عن نضالاته وحملته العارمة على الأسد وضباط الطائفة الحاكمة، وعن انخداعه بهم.

أقول: هذا الخواء الفكري كان طابع ثقافة ضباط الآيديولوجيا. ثقافة لا تزيد عن قراءة مقالات للحوراني وعفلق والبيطار، ومراجعة للتاريخ في كتب الدراسة في المرحلة الثانوية. بهذه العقلية المتأثرة حينا بالقومية، وحينا بفتات ما تلقيه الصحف عن الماركسية والاشتراكية، حُكمت سورية 52 سنة من أصل 63 سنة مرت على استقلالها.

استعان عفلق والبيطار بأمين الحافظ لمواجهة ضباط «اللجنة العسكرية» التي قامت بانقلاب 1963، بالاشتراك مع الضباط الناصريين والمستقلين. عندما ظهرت نوازع «اللجنة» الطائفية، تم تصعيد الحافظ إلى رتبة رئيس دولة (رئيس مجلس الرئاسة).

لدهشة البيطار وعفلق فقد مارس الحافظ مناورة ساذجة بين مراكز القوى. نازع صلاح جديد وحافظ الأسد ومحمد عمران. لكن رفض طلب القيادة المدنية بتحييد اللجنة. حلها. إعادة العسكر إلى الثكنات. بل انضم إلى اللجنة! فاستخدمته في «سحق ومحق» الشارع الناصري، فيما كان صلاح جديد يغير بُنْيَة الحزب بملئه بجيل متسلل من الماركسيين والتروتسكيين.

زاد الطينَ بلة امتداح أمين الحافظ للحوراني علنا. كانت النتيجة استيعاب اللجنة لقيادة الحزب القومية، وإسقاط الحافظ بالقوة (1966). المضحك المبكي هنا أن الفريق «أبو عبده» كان الرئيس الوحيد الذي قاوم بالقوة الانقلابيين! قاتل. قتل حرسه. جرح هو وابنه وابنته. عندما استسلم سُجن 16 شهرا. وأُعدم بقية الحرس. عندما تقرر الإفراج عنه قبيل حرب 1967، أحضرت اللجنة خياطا (ترزيا) لخياطة ثياب مدنية له، غادر فيها إلى لبنان.

أشفق عبد الناصر على أمين الحافظ. تناسى تلاعبه الصبياني بمسدسه أمامه، وهو يستقبله في القاهرة (1964) ممثلا لسورية في قمة حماية مياه نهري اليرموك والأردن. دعاه ضيفا عليه في مصر. لكن الحافظ لحق بعفلق إلى بغداد، مفضلا قفص صدام الذهبي.

لم يمت الفريق أمين الحافظ في قفص صدام. مات عفلق. مات منيف الرزاز. مات ضباط سوريون لاجئون وهم يقاتلون إيران والأكراد. فر آخرون عائدين إلى سورية، مفضلين سجن الأسد على «جنة» صدام. عاش أبو عبده فوق التسعين. كان شانقو صدام قُساةً على شيخوخته. حمل ما بقي له من حُطام. وقف على الحدود مستغفرا. فتح له بشار الباب (2003). عاد شيخ الشباب إلى حارته الحلبية. قضى في صمت وهدوء ما بقي له، في العمر، من سنين قليلة.