حتى لا ينطحنا القرن الأفريقي!

TT

هناك أنباء تتحدث عن نقل قائد الحوثيين، عبد الملك، من اليمن إلى إريتريا لإسعافه بعد إصابته بقصف عسكري. هناك من يقول إنه مات وهناك من يقول إنه يعالج، وهناك من ينفي هذا كله.

مصرع القائد الميداني الأبرز عبد الملك الحوثي، ليس نهاية المطاف. قد يأتي مكانه قائد آخر، رغم أهمية الضربة المعنوية التي سددت للجماعة الحوثية المتمردة، لكنها تظل ضربة محدودة ما لم يتبعها حل شامل، يصير الجانب العسكري فيه جزءا من الحل لا الحل كله.

ما يجب أن يلفت الانتباه في هذه الأنباء، وما هو أهم من مصرع عبد الملك الحوثي، في تقديري، هو الجهة التي قيل إن الحوثي نقل إليها، وهي إريتريا، وهو خبر، إن صح، يعزز الاتهامات التي تضع إريتريا في عمق التحالف الغريب الذي يضمها مع إيران وجماعة شباب المجاهدين السلفية الأصولية في الصومال، إضافة للعلاقات الدافئة الأقدم التي تربطها بإسرائيل، التي تمر بفترة برود حاليا، وأغرب من هذا كله أن رئيس إريتريا، السيد أسياس أفورقي، الرجل «التقدمي» الثوري، كان عدوا للمجاهدين الإريتريين، أو الأصوليين حسبما كانت تسميتهم، وهو فوق هذا كله مسيحي الديانة، رغم علمانيته المعروفة.

عموما فإن هذا ليس أول ذكر للدور الإريتري في المشكلة الحوثية، فقد سبق أن نقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن أن هناك موانئ إريتريا تستقبل شحنات الأسلحة الإيرانية ثم تصدرها لصالح الحوثيين في اليمن.

كيف جمعت إريتريا بين علاقتها المتنامية مع إيران منذ بضع سنوات، مع علاقتها الداعمة واحتضانها الساخن لجماعة الشيخ عويس، الذي يعارض حكومة شيخ شريف، رفيقه السابق في المشوار «الجهادي»، وبين علمانية النظام ومحاربته للأصولية.

هل إريتريا في البحر الأحمر، بعلاقاتها الغريبة مع الشيطانين الأصولي والأميركي، هي النظير الآخر لدولة تقابلها في شرق الجزيرة العربية، على الخليج، جمعت، مثل إريتريا، بين إسرائيل وإيران وحماس وحزب الله في غرفة واحدة بحماية أميركية؟!

بعض الخبراء، مثل محمد طه توكل، المختص بشؤون القرن الأفريقي في مركز الخليج للأبحاث، يقول إن كل هذه القفزات الإريترية هي بسبب العداوة بين إثيوبيا وإريتريا، وكذلك غيرة الأخيرة من دور جيبوتي المتنامي بمينائها الصاعد بعنفوان على البحر الأحمر. لذلك فحكومة أفورقي كرهت انضمام الشيخ شريف إلى مؤتمر جيبوتي الذي أوصل شيخ شريف للحكم، ودعمت الشيخ عويس الذي يقود تمردا مسلحا ضد الحكومة الحالية في الصومال.

خلاصة الأمر أن إريتريا التي انضمت لإسرائيل وحاربت العرب في أزمة جزر حنيش اليمنية أول التسعينات، وبالغت في تمتين علاقتها بتل أبيب نكاية بالعرب، ها هي تعود لسياسة النكاية نفسها، ولكن هذه المرة بإسرائيل وأميركا، وترتمي في الحضن الإيراني، وأغرب منه حضن جماعات «القاعدة» وأشباه «القاعدة». فشيخ عويس كان إلى وقت قريب متهما من قبل جهات أميركية بقيادة «القاعدة» في منطقة القرن الأفريقي، وبضلوعه في تفجيرات نيروبي ودار السلام.

محمد طه توكل يشير، في حواره مع كرار أبو علي، إلى عوامل اقتصادية وعلاقات معقدة تعمق هذا الغزل الإيراني الإريتري، منها أن العلاقة مع إريتريا بالنسبة لإيران، تعتبر مكسبا يضاف إلى ما تمتلكه إمكانيات من خلال وضعها المميز على مضيق (هرمز) وتهديدها للمصالح الأميركية والغربية، وتستطيع الآن فرض مزيد من التهديد من خلال التسهيلات التي ستحصل عليها من إريتريا بموجب التعاون بينهما، وسيعزز بالتأكيد حضورها في باب المندب وحوض البحر الأحمر.

ويضيف توكل: «الوجود الإيراني في جانبه الاقتصادي يهدف إلى تطوير مصفاة تكرير البترول في ميناء (عصب) وإنشاء مستودعات وقود إيرانية بهدف تصديرها، وهذا يعزز الاقتصاد الإريتري إذا ما كتب له النجاح، وربما يتم تسويق هذا التعاون سياسيا من أجل خلق التوازن في العلاقات بين إريتريا وأميركا وإسرائيل مستقبلا. من جانب آخر هناك غضب متنام في المنطقة خاصة العربية منها بسبب هذه العلاقات وما تسميه هذه الدول بتنامي النفوذ الإيراني في منطقة البحر الأحمر، وعموما فعلاقة إريتريا بإيران هي سلاح ذو حدين، وكلاهما يستفيدان إذا ما أحسنا التصرف».

لنا أن نتذكر أن هذه الانعطافة الإريترية حديثة التاريخ تعود إلى 2007، حيث توجت إريتريا علاقاتها بإسرائيل بزيارة الرئيس أفورقي لها في العام 1992 بغرض الاستشفاء، ثم تم التبادل الدبلوماسي بينهما في العام التالي لتكون البعثة الإسرائيلية في أسمرة الثالثة بعد البعثة السودانية والمصرية، تلا ذلك أزمة احتلال جزر حنيش اليمنية، لتتوتر علاقات إريتريا بالدول العربية، ليقوم بعدها تحالف بين تل أبيب وأسمرة، حتى مجيء عام 2007 حيث اتجهت إريتريا باتجاه المحور الإيراني السوري، واستقبل أفورقي خالد مشعل وهاجم حليفته إسرائيل، وهذه «تميمة» الشعبية الجماهيرية لدى هذا المحور، لكن ما الذي جعل أفورقي يهاجم إسرائيل ويندد بانتهاكها لحقوق الفلسطينيين، هل اكتشف للتو هذا الأمر؟! أم أن ذلك من مستلزمات الكيد السياسي وإكسسوارات «اللوك» الخطابي الجديد؟

لماذا أحدث أفورقي هذا التحول؟ الخبراء يقولون إن ذلك بسبب توترات بين أسمرة وواشنطن بدأت من مرحلة كلينتون، واستمرت في إدارتي بوش، بسبب عدم الثقة بمصداقية أسمرة، والدور السلبي الذي تمارسه إريتريا في الملف الصومالي ومجمل قضايا القرن الأفريقي، وتوجه أميركا والغرب للتعاون مع إثيوبيا، غريمة إريتريا، لذلك بدأت الأخيرة تمارس دور «الولد الشقي» في القرن الأفريقي، وتحرشت بجارتها الصغيرة جيبوتي من هذا المنطلق، وأيضا بسبب دور جيبوتي المتعاون مع المجتمع الدولي في الأزمة الصومالية.

الغريب، وكما في كل مرة، نجد إسرائيل وإيران تتصارعان على ساحات ومسارح تخص العرب بالدرجة الأولى: لبنان وفلسطين والقرن الأفريقي.

القرن الأفريقي هو جناح العالم العربي الإسلامي في أفريقيا، فالدول التي تطل عليه وتكونه هي الصومال، وجيبوتي، وإثيوبيا، وإريتريا، ويتصل بها السودان، وكينيا، وأوغندا، تأثيرا وتأثرا. هو بهذا التحديد قرن إسلامي الهوية، للكثافة السكانية المسلمة التي تقطنه كما يقول الدكتور جلال الدين صالح.

والهجرة التجارية والتأثير الثقافي للحبشة ودول القرن الأفريقي هي مع اليمن وساحل السعودية الغربي كله، وأيضا سلطنة عمان، فأين إيران وإسرائيل من هذه المزايا كلها؟

ولكن أين دول البحر الأحمر العربية من هذه القضية؟ ولماذا ضعف دور مصر، وهي هامة أفريقيا العربية، ولديها نهر النيل الذي ينبع من دول هذا القرن؟ وأين السعودية التي تمسك بالضفة الشرقية للبحر الأحمر، وأين اليمن الذي يمسك بعنق البحر الأحمر وفمه؟

صحيح أنه سبق للسعودية أن بادرت لحل المشكلة الصومالية، وحاولت مصر، وهناك دول «البحر الأحمر» التي انطلقت من صنعاء، ولكن كل هذه الجهود لم تحل دون التمدد الإيراني في إريتريا، بل وحتى جيبوتي بدأت تنزلق إلى هذا المنزلق، وقبل أيام زار منوشهر متقي هذا البلد الصغير بشكل خاطف، وفي أول السنة المنصرمة كانت هناك زيارة حاشدة لأحمدي نجاد إلى جيبوتي، رغم ما بين هذا البلد وإريتريا من عداء، لكن إيران بكل رشاقة تغازل أسمرة بوجه وجيبوتي بوجه آخر.

أمن البحر الأحمر وأمن مضيق باب المندب واستقرار الصومال وإنهاء القرصنة البحرية والقضاء على تمرد الحوثيين في اليمن، كلها حلقات مرتبطة ببعضها بعضا، وما لم تبادر الدول الكبرى، في هذا الحوض البحري، التي لها الدالة والمميزات الثقافية والتاريخية لفرض التعاون والاستقرار في دول القرن، فإن القرن الأفريقي سيتحول إلى نصل حاد مقبضه بيد إيران أو إسرائيل، يجرح ويقتل ويسيل الدماء، وقبل فترة قليلة أيضا كانت هناك جولة على دول القرن الأفريقي لوزير خارجية إسرائيل ليبرمان، ونحن لا حس وخبر!

لا يوجد أي مانع لعمالقة البحر الأحمر العرب من أن يفرضوا حقائق الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد على هذا المجال الحيوي، ولكن لماذا لا نجد إلا الدور الإيراني والإسرائيلي؟

لا ندري.. ورحم الله المتنبي حين قال:

ولم أر في عيوب الناس عيبا

كنقص القادرين على التمام

[email protected]