التحدي الإيراني ومفهوم الحرب العادلة

TT

ليست الحرب الدفاعية بمفهومها المجرد حرباً عادلة لوحدها، والبقاء المستكن لتلقي الضربة لا يحدد وحده الإطار العام لشروط العدل. فالضربات الإجهاضية والعمليات الإحباطية لخطط وتحضيرات طرف ما لشن حرب عدوانية أو لتنفيذ مشاريع توسعية، والضربات على جحور الإرهاب ومثيري فتن الخرافات، تكتسب صفة العدل أيضاً، طالما بقيت ضمن إطار قانوني، مع مراعاة الجانب الإنساني في الربط الوثيق بين الغاية والوسائل. ولم يقدم استخدام الرئيس باراك أوباما لمصطلح الحرب العادلة مفهوماً جديداً أو فلسفة للتصنيف الذي تستند إليه مشروعية الحرب العادلة.

عندما تتجاوز دولة ما حدود الأمن الدولي، وترفض التعاون مع القرارات الأممية، وتصر على مواصلة سياسة التحدي، وتظهر علامات قوية لوضع العالم على كف تسابق نووي لا يمكن السيطرة عليه، فإنها تضع نفسها في مواجهة حرب عادلة، ليس بالضرورة أن تكون حرباً عسكرية شاملة. وضمن هذا الفهم نُشرت تقارير تشير إلى أن الرئيس الفرنسي طلب من مستشاريه دراسة احتمالات توجيه إسرائيل ضربات على المواقع النووية الإيرانية وتقييم ردود الفعل عليها. ومع أن مثل هذه الدراسات تعتبر معتادة وأحياناً افتراضية، فإنها تدل على توقع الأجهزة المختصة حصول ضربة على المواقع الإيرانية. ويتضح من تحليل السلوك الفرنسي أن (تقبل) الضربة يأخذ تسلسلا مميزا في صياغة إستراتيجية مجابهة النهج الإيراني. إلا أن الفرنسيين اكتفوا في بعض المواقف بالتشجيع من على مدرجات لعبة الحرب.

في المقابل أجرت القوات الإيرانية أكبر مناوراتها العسكرية على الإطلاق، على مساحة (600000) كيلو متر مربع، معطية بذلك دليلا على أنها لا تستبعد وقوع عمليات (واسعة)، وليس التحسب لعملية خاطفة محدودة جغرافياً. ويستخلص من فرضيات المناورات تسليم العسكريين الإيرانيين بالقدرة الغربية على شل أجهزة الكشف الإلكتروني لوسائل دفاعهم الجوي. مما دفعهم إلى التركيز على الوسائل التقليدية من المدفعية وغيرها التي تعتمد على الرصد البصري. وهو أسلوب بدائي فاشل في حالتي العمليات الليلية والطيران على ارتفاعات عالية. وإذا ما أضيف لجوء الطيارين الإيرانيين إلى أسلوب القتال من دون توجيه راداري، فستمنى عمليات الدفاع الجوي الإيراني بفشل تام.

من المرجح أن تؤدي سلسلة ضربات محدودة إلى عمليات واسعة، تُلزم القوات المهاجمة بتوجيه ضربات إلى العصب الرئيسي في فلسفة اتخاذ قرارات الحرب، وهذا يعني تعرض المنشآت السيادية العليا للقصف، لأنه لا يجوز مثلا استهداف مفصل قيادي معين إلا إذا بُني القرار على معطيات تؤكد علاقته بفلسفة إدارة الحرب.

وبما أن الهجوم البري لا وجود له بالمرة، فإن كل القوات البرية لن يكون لها دور في أي حرب محتملة، وما يقال عن احتمالات توغل بري إيراني في الأراضي العراقية لمهاجمة القوات الأميركية هناك لا يتعدى تخيلات غوغائية ساذجة. لأن من المستحيل تأمين إدامة قوات تغلغل واسع وعميق تحت وطأة سيادة جوية مطلقة. فضلا عن أن القوات الأميركية أعادت انتشارها إلى أعماق تؤمن لها حماية مناسبة.

وما يقال عن قدرة إيران على حرق منشآت النفط العربية مبالغ فيه كثيراً. ففي أسوأ احتمال، يتطلب إصابة عدد محدود من المنشآت النفطية شن هجمات صاروخية كثيفة تبقى احتمالات إصابتها متروكة للصدفة، طالما بقيت وسائل التوجيه تقليدية. ومنذ عشر سنوات يتكرر الحديث عن تجارب صواريخ تعمل بالوقود الصلب وتتمتع بدقة بالغة ويصل مداها إلى إسرائيل واسطنبول والقاهرة. وقبل ثماني سنوات تحدثوا عن شهاب 3، وهو ما دعا تركيا في حينه إلى الاحتجاج. إذن لماذا تكرار التجارب؟ هل أنهم توصلوا إلى رؤوس بيولوجية وكيماوية و(تصميم) رؤوس نووية هذه المرة؟ ولهذا السبب تدربوا في المناورات الأخيرة على العمل في ظروف حرب كتلوية؟

قرارات، إن لم نقل مؤامرات، بريمر السيئة بحل المؤسسات السيادية والتصنيع العسكري، كانت أفضل هدية قدمت إلى إيران. فقد وُضع علماء وخبراء ومهندسو التصنيع العسكري العراقي أمام خيارات العوز والاغتيال والاعتقال والتشرد والاختطاف، أو البحث عن خيارات أخرى. فتوافرت فرص تاريخية لعملاء إيران للوصول إلى وثائق خطيرة عن التصنيع وتشغيل عدد من الخبراء في البرامج الإيرانية مرغمين أو بإغراءات مالية، وقد يقف هذا وراء عمليات التطوير المستمرة.

قبل نحو عام ونصف العام قلنا (لا تغدقوا الحوافز فإنهم لا يفهمون لغة الحوار)، واليوم تطورت المعادلة إلى تسريع العد التنازلي لإجراءات عقابية حاسمة. والمخططون والسياسيون يفهمون القصد من ذلك ضمن حدود العقوبات والردع والتلويح.. لأن من غير المعقول (أبداً) القبول بحصول إيران حتى لو بعد عشرة أعوام، على صواريخ تصل إلى وسط العالم، فكيف إذا رُكّبت عليها رؤوس نووية؟ أما الذيول فمصيرها معروف.