الثابت والمتحول في العلاقات التركية ـ المصرية

TT

لا يمكن لأي كان أن يخفي حقيقة التباعد وتضارب المصالح التركية المصرية في أكثر من حقبة تاريخية وزمنية ولأكثر من سبب. موقف تركيا السلبي من ثورة الضباط الأحرار في مصر ومن موضوع تأميم قناة السويس وتحالفها الاستراتيجي مع الغرب لا يقل شأنا عن خيار مصر دعم القضية الكردية العلني وابتداء من مطلع الخمسينات والوقوف إلى جانب الأرمن في أكثر من مناسبة وإعلان الشراكة مع السوفيات جيران تركيا حتى أواخر الثمانينات. قبل سنوات فقط كان التنافس التركي المصري يتمحور مثلا حول مسألة التنقيب عن النفط في شرق المتوسط الملف الذي حركته قبرص اليونانية في وجه أنقرة وتبعته اتفاقية حوض المتوسط التي أطلقتها فرنسا بالتنسيق مع مصر ولم ترحب بها القيادة التركية كثيرا لتفجر الحرب الإسرائيلية على غزة أزمة حجم الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في محنته هذه والتي حسمتها حنكة وعقلانية القيادتين واتصالاتهما المباشرة التي قطعت الطريق على أحلام البعض لناحية التلاعب بفراغاتها.

الثابت في العلاقات التركية المصرية هو أن لا فرصة لقيام أي تكتل إقليمي يستبعد أنقرة والقاهرة حصرا وصعوبة بناء استقرار أمني وسياسي إقليمي خارج التنسيق والتعاون المصري والتركي والثابت أيضا هو قدرة البلدين ودورهما في تحريك وإدارة لعبة التوازنات الإقليمية والفرص الكبيرة السانحة لهما لملء الفراغ السياسي والأمني وتحولهما إلى قوة جذب شرق أوسطية تمنحهما الكثير من الفرص والحظوظ والخيارات. الثابت أيضا هو الكم الهائل من القدرات الاستراتيجية والأوراق المهمة التي يملكانها بسبب تمددهما التاريخي والحضاري وشبكة العلاقات الواسعة التي يقيمانها على المستويين الإقليمي والدولي لقيادة المشروع الريادي المحوري في بناء سلام واستقرار المنطقة.

لكن المتحول في العلاقات بين البلدين هو زيارة وزير الدفاع المصري المشير حسين طنطاوي إلى تركيا قبل أسابيع وحضوره أول مناورة بحرية مشتركة بين البلدين تحت عنوان «بحر المحبة ـ 2009» وتوقيعه للعديد من العقود والاتفاقيات الثنائية في مجال التصنيع الحربي.. لا بل أن المتحول ظهر إلى العلن أساسا مع زيارة الرئيس التركي عبد الله غل الأخيرة إلى مصر في مطلع العام المنصرم والأجندة الطويلة من المشاريع والاقتراحات والعقود تقدمها وضع حجر الأساس لأكثر من خطة تعاون اقتصادي إنمائي استراتيجي تصدرها الإسراع في إنجاز المدينتين الصناعيتين التركيتين في «6 أكتوبر» و«العاشر من رمضان» والحديث عن استثمارات تركية بقيمة ملياري دولار تشمل 260 شركة ومصنعا توفر فرص العمل لأكثر من 30 ألف مصري اليوم.

النتائج الحقيقية جاءت مع زيارة الرئيس المصري حسني مبارك إلى أنقرة التي تعتبر الثانية التي يقوم بها خلال عام واحد إلى أنقرة وإعلان القيادات المصرية أن تركيا قوة إقليمية راغبة في التنسيق والتعاون مع القاهرة وليست قوة منافسة لها كما يدعي البعض. زيارة مبارك تزامنت مع اختبار إيران صاروخها الجديد البعيد المدى «سجيل ـ 2» الذي أقلق البعض في المنطقة وأغضب البعض الآخر في الغرب وصاحبها كذلك تصريحات إسرائيلية متضاربة حول استمرار ـ انتهاء الوساطة التركية بين إسرائيل وسورية قد يحسمها لقاء الرئيس التركي عبد الله غل بالرئيس الإسرائيلي شيمعون بيريز على هامش قمة كوبنهاغن الدولية، هذا إلى جانب استمرار النزف على الساحة الفلسطينية ومضي تل أبيب في سياستها التصعيدية الاستفزازية في الأراضي المحتلة. كل هذا فرض على القيادتين مراجعة الثابت والمتحول في علاقاتهما الثنائية بأسرع ما يمكن واعتماد استراتيجيات إقليمية جديدة لا مفر منها إذا ما كانت الغاية الحقيقية هي إبعاد شبح الحرب والتدمير والتفتيت عن المنطقة.

أما الملفت هنا هو أن زيارة الرئيس المصري كشفت النقاب عن ارتفاع حجم التبادل التجاري إلى 6 أضعاف خلال 3 سنوات ليصل إلى 3 مليارات دولار واستعداد الجانبين لزيادة هذا الحجم خلال السنوات الخمس المقبلة ليصل إلى الضعف.

نتائج زيارة مبارك عززت لدى الطرفين أيضا الرغبة بالتنسيق المشترك في التعامل مع أكثر من قضية إقليمية يتقدمها الوضع في غزة والمؤتمر الدولي المزمع عقده بهذا الاتجاه في القاهرة بعد شهرين والتعاون نحو دفع جهود المصالحة الفلسطينية الفلسطينية إلى الأمام بالتنسيق مع العواصم العربية الفاعلة ويتقدمها الرياض وعمان ودمشق تحديدا.

ولنقلها بصراحة وأمام ازدحام وتدافع الأزمات والمخاطر والتهديدات المحدقة، إن المنتظر والمطلوب اليوم هو إلى جانب التحرك لاكتشاف مجالات وفرص التعاون المشترك التجاري والإنمائي بين تركيا ومصر الانطلاق لتأطير هذا التعاون والتنسيق الأمني والاستراتيجي على المستوى الإقليمي ضمن منظومة شرق أوسطية مصدرها خصائص ومميزات المنطقة واحتياجاتها ومتطلباتها تحمي مصالح شعوبها ودولها المشتركة وتبعد عنها غيوم الحرب والتصعيد والتأزم وخارج الحلول المستوردة وطرق أبواب الآخرين وتحمل أعباء سياساتهم الفاشلة.

التحول المطلوب في سياسات البلدين يفترض استغلالهما لموقعيهما بين دول الاعتدال في المنطقة وقدرتهما عبر التنسيق مع المملكة العربية السعودية والأردن على بناء منظومة شرق أوسطية يريدها الشارع قبل الانتلجنسيا العربية والإسلامية وتكون بمثابة الفرصة التاريخية التي تضع حجر الأساس وتكون نواة توحيد الجهود وتنسيق السياسات والمواقف. تكتل تكون أنقرة والقاهرة والرياض وعمان في طليعة الدول المؤسسة له لكنه يسارع إلى توسيع دائرة استقطاباته الإقليمية للراغبين حقا في المساهمة بحماية أمن واستقرار المنطقة وتجنيبها الويلات والكوارث.