حزب الفنانين والأدباء

TT

منذ عشرين سنة ونيف كتبت هنا عن نجاح مجموعة محدودة من المثقفين في خلق جلبة ساخنة في الشارع وإرباك حسابات السياسيين، وذلك بمناسبة تحرك لسينمائيين فرنسيين ضد قوانين للهجرة اعتبرها هؤلاء مجانبة للمشاعر الإنسانية التي اشتهرت بها فرنسا، بإيوائها للاجئين الفارين من الظلم وبقوانينها المتسامحة.

وكان لذلك التحرك أثر مزعج بالنسبة للسياسيين الذين فوجئوا بعنفوان حركة خلخلت الأجندة، وكادت تخلق أمرا واقعا يتخطى الأجهزة والآليات التي تتخذ بها القرارات المنظمة لأمور المجتمع في بلد ديمقراطي. وكنت قد أبرزت حينئذ أن تلك الظاهرة، مثل فوز بعض الشخصيات الفنية والرياضية بمناصب انتخابية، وحتى إقدام المونولوجست الفرنسي كولوش على الترشح لرئاسة الجمهورية، يمكن أن تكون فصولا مثيرة، ولكنها لا تزعزع الأسس التي تقوم عليها الحياة العصرية، فيما يخص المؤسسات والأساليب التي تتخذ فيها وبها القرارات التي تنظم الحياة العامة.

وبمناسبة حادثة أمينتو حيدر وقع في مدريد تحرك مماثل قاده سينمائيون كذلك من ذوي الأسماء اللامعة قاموا بتنظيم تضامن واسع في المجتمع الإسباني كان له صدى ملموس.

وهو من نوع التحركات الاجتماعية التي تثير الانتباه بأنها تخرج من إطار المواقف الانفرادية التي يشتهر بها المثقفون عادة لتتخذ شكل موقف جماعي، هو تقريبا موقف منظم، وغالبا يجمع فيما بين متناقضات، يجمع فيما بين أصحابها الالتفاف حول فكرة ساطعة، وتبني موقف بارق يلمح فجأة في الأفق ثم يهمد ويتوارى.

ومن الجدير بالذكر أن السينمائيين الإسبان الذين تحركوا في نازلة أمينتو حيدر هم أنفسهم الذين كانوا قد التفوا منذ خمس سنوات للتشهير بموقف الحكومة الإسبانية التي كان يرأسها اليميني أثنار، في أفق شن الحرب على العراق. وكان انخراط إسبانيا في مسلسل الحرب منذ سنة قبل ذلك، هو المفجر لحركة واسعة في الشارع الإسباني التأمت تحت شعار «لا للحرب». وفيما بين الخميس الـ11 مارس 2002، تاريخ انفجارات مدريد، والسبت الـ13 منه، تحركت بسرعة فئات متعاطفة مع نداء محاربة الحرب، وحاصرت مواقع الحزب الحاكم، (الحزب الشعبي) ونظمت مظاهرات عارمة للتنديد بقرار الحرب، وتحول التيار بكيفية حاسمة لفائدة الحزب الاشتراكي، الذي انصب في خانته ما لا يقل عن مليون ونيف من الأصوات، يوم الأحد 14/3.

وكانت الشرارة الأولى قد اندلعت بمناسبة توزيع جوائز مهرجان غويا للسينما، حيث ألقى كبار المتوجين تصريحات ملتهبة ضد الحرب على العراق، وظلت الكرة الملتهبة تتأجج إلى أن كان ما كان. وبمناسبة نازلة السيدة أمينتو تحركت نفس المجموعة، فحشدت تأييدا واسعا للتضامن مع سيدة تخوض إضرابا عن الطعام «حتى الموت» دفاعا عن قضية تؤمن بها، وعن حقها في الالتحاق بطفليها، وهذه هي الزاوية التي رسمت للنظر حالة نزيلة مطار لانثاروطي في كانارياس.

وكما قلت في مقال سابق عن هذا الموضوع حينما تناولته كنازلة سياسية، فإنه في دولة قانون حقا كما هي حال إسبانيا لا يسع الحكومة، مهما كانت متانة شرعيتها، أن تصم عن النداءات المنبعثة من المجتمع المدني، مثل الفنانين والأدباء وبقايا اليسار الماركسي.

ومما وقع في نازلة أمينتو أن جماعة السينمائيين قد أحرجت حكومة ثاباتيرو التي يمكن أن تعتبر حكومتها. وقد تزعم الجماعة هذه المرة أيضا المخرج بيدرو الموضوفار (المظفر؟) الحائز على أوسكار هوليوودي في السيناربو، والمرشح من جديد للأوسكار في الإخراج. وهكذا فإن ترويج اسمه يتم الآن في أفق هذا الترشيح، كما أن تصدره لحركة معارضة الحرب في 2002 كان قد سبق العرض الأول لشريطه السينمائي «تكلم معها».

انضم إليه في هذه المرة عشرات السينمائيين ومنهم بينيلوبي لوبييث، التي كانت ضيفة على مهرجان مراكش الدولي مؤخرا. وكذلك فنانون وكتاب مرموقون مثل بيلار وخافيير بارديم، ومدير مجلة «لومند ديبلوماتيك» إيغناثيو راموني، وجوزي ساراماغو البرتغالي الحائز على نوبل، وغيرهم ممن لا تعني أسماؤهم شيئا بالنسبة للقارئ العربي غير المطلع.

ووقع هؤلاء بيانا باسم «أشخاص من عالم الثقافة بإسبانيا»، رفعوا فيه التماسا للملك خوان كارلوس قصد التدخل «لأسباب إنسانية» لكي يتشفع لدى صديقه ملك المغرب قصد السماح لأمينتو بالعودة إلى طفليها. ولكن حكومة ثاباتيرو اعترضت بقوة على حشر العاهل الإسباني في الموضوع باعتبار أن الملف سياسي تقوم هي بما يلزم لتسويته، ولا حاجة لإحراج الملك. ولوحظ أن من بين الموقعين كتابا وفنانين يجاهرون بأنهم جمهوريون ويساريون متطرفون.

ولم يكن هذا الموقف هو الوحيد الذي افترق فيه اليساريون مع حكومة اليسار. ففي أكتوبر الماضي وقع 292 مثقفا بيانا حول الأزمة الاقتصادية التي تجتازها إسبانيا انتقدوا فيه السياسة الاقتصادية للحكومة الاشتراكية جعلوا عنوانه «سياسة أخرى وقيم أخرى، من أجل الخروج من الأزمة». وفي أواخر نوفمبر التف موسيقيون حول بيان للاحتجاج على سياسة الحكومة اليسارية في مادة حقوق التأليف. كما نظمت مسيرات ضد استمرار تورط إسبانيا في أفغانستان عسكريا.

في نازلة أمينتو تم اختيار شعار إنساني ينم عن أريحية. وتمكن الملتفون حول الحركة و«البيان المؤسس» لها، من تأليب الرأي العام بسهولة لا تتم في إسبانيا إلا حينما يتعلق الأمر بموقف عدائي إزاء المغرب. وكان الإضراب عن الطعام يعطي يوما بيوم أسبابا لترويج أدبيات البيان المومأ إليه لأن الحالة الصحية للمضربة عن الطعام كانت تزداد وهنا على مر الأيام.

وظهر جليا أن الصدى الذي خلقته الحركة والحملة الصحافية التي صاحبتها، لم تكن الأحزاب السياسية لتقدم عليه. بل إن الكاتب فيثنطي فيردو قال (إيل باييس، 12/12): «إن الأحزاب لم تكن لتنجح في تنظيم مثل ذلك «الكيرميس» الحافل، حول قضية مجهولة. إلا أن الأمر يتطلب التزاما لا يدوم أكثر من نصف ساعة. والأمر يقتضي أن تحتشد جماعة قليلة، تحت شعار أخاذ، دون أن يتطلب الأمر التزاما إيديولوجيا، أو اتفاقا على فكرة، لأنه ليست الأفكار هي التي تحتشد لها الجموع بل المشاعر. وهذا ما يحدث بمناسبة تجمعات حول الإيدز أو المناخ أو الحرب. ولاحظ أن حركتي أوكرانيا أو إيطاليا لم ترفعا أفكارا، بل اختارت أن تتميز بلون، الثورة البرتقالية والثورة البنفسجية. وكذلك هو الأمر بالنسبة للشريط الملون الذي يظهر يوم الحملة ضد سرطان الثدي. وبدلا من الأوتوبيا التي كانت تبشر بها الحركات الفكرية من قبل، ها هي الفانتازيا هي التي تخاطب المخيلة».

طبعا قام الإعلام بدور التنشيط الحثيث وتضخيم الصدى، فوقع التجاوب من خارج إسبانيا حيث انضم ثلاثة من الحائزين نوبل للآداب، وكتاب مرموقون.

وكل هذا ينبئ بتزايد فعالية العمل في حظيرة شبكة تحسن استعمال وسائل الاتصال، حيث تتمكن نخبة محدودة من الناشطين من أن تحتل الفضاء العمومي، وتفرض على المجتمع شعاراتها وانشغالاتها، وتلون المشاعر العامة بألوانها. يتعلق الأمر هنا بممارسة السياسة في الوقت الثالث. أصحاب المبادرة ليسوا قوة منظمة، لكنهم يشكلون نخبة قادرة على إثبات الحضور، وأحيانا تصبح قادرة على خلق حقائق انتخابية لها عواقب. ولسبب ما كان أول من اتصل به ثاباتيرو للإخبار بوقوع الانفراج هو الكاتب ساراماغو.