التاريخيون يتعذبون أيضا

TT

كان روبرت أوبنهايمر وإدوارد تيللر ضمن فريق العملاء الذي اخترع القنبلة الذرية. لكن قبل أن يأمر الرئيس الأميركي هاري ترومان بإلقائها على هيروشيما، بدأ كلاهما يتخيل ماذا فعلت يداه، وفي أي حقل استخدم عبقريته العلمية. وفكر كلاهما بترك العمل. لكن الأوان قد فات. وأخذ أوبنهايمر يفكر في الانتحار للتخلص من عذاب الضمير، لكنه وجد ذلك غير أخلاقي أيضا. وعندما أسقط ترومان القنبلة على هيروشيما وحولها إلا مدفن ضخم من الرماد، ذهب العالم الذي قلب وجه التاريخ إلى رئيسه وقال له: «ثمة دم كثير على يدي». ولم يجب ترومان، بل أنهى الاجتماع، وبعد خروج العالم قال لمساعديه: «هل سمعتم ماذا يقول هذا الملعون. دماء على يديه. إنه لا يعرف أن كل الدماء تلك التي على يديه ليست نصف الدماء التي على يدي. لكن ليس للمرء أن يتذمر من ذلك في العلن».

عندما نقرأ التاريخ نكتشف كم كان الرجال التاريخيون، أحيانا، بشرا مثلنا، وربما أكثر ضعفا وأقل دراية. لم يكن قليلا عدد الرؤساء الأميركيين الذين اتسموا بالسذاجة. إذا كان ترومان قد استخدم الذرة لإنهاء الحرب، فإن رونالد ريغان، القليل المعرفة في كثير الشؤون، حلم بدرع جوية ترد الصواريخ عن الولايات المتحدة. ومن دون أن يستشير أيا من العملاء ذهب إلى فيلادلفيا وألقى خطابا عن «مشروع» أميركا الجديد، الذي عرف باسم «حرب النجوم».

هل هناك من هو أكثر سذاجة من ريغان؟ الزعماء السوفيات. ففي حين عرف العلماء الأميركيون أن ريغان يتحدث عن حلم طفولي مستحيل، أخذ السوفيات المسألة على محمل الجد. كل ترسانتهم أصبحت بلا معنى. وتوازن القوى الذي كبدهم ثرواتهم لم يعد قائما. وهكذا جاء السوفيات إلى واشنطن يفاوضون على خفض الأسلحة لقاء تخلي أميركا عن وهم لا وجود له!

أخفقت المخابرات السوفياتية في معرفة الحقيقة، فيما الأميركيون يأخذون أكثر معلوماتهم من الصحف والإذاعة السوفياتية. عندما توفي الزعيم السوفياتي قسطنطين تشيرينكو عام 1985، كان العالم أجمع يعرف أنه في النزع الأخير. لكن الأميركيين فوجئوا عندما بدأت إذاعة موسكو بث موسيقى جنائزية، وراحوا ينتظرون لمعرفة ما الخبر. وعندما أذاع أندريه غروميكو النبأ أخيرا وأعلن انتخاب ميخائيل غورباتشوف لم تكن أميركا تعرف شيئا عن الرجل الذي سوف يتغير معه الاتحاد السوفياتي وملامح العالم أجمع. لم تصدق أميركا أن الزعيم الشاب سوف يغير أي شيء. كان جميع خبرائها وساستها على قناعة بأن المكتب السياسي مكتظ «بالحرس القديم» وهؤلاء لن يغيروا شيئا. ولم تكن أميركا تعرف أن الذي بدأ التغيير قبل وفاته كان زعيم الحرس، رئيس المخابرات، يوري أندروبوف.