إسرائيل.. المستفيد الوحيد من «القاعدة» ومن الظاهرة الإرهابية!

TT

بعد أن تأكد أن ضحايا «القاعدة» من المسلمين أكثر من ضحايا من يسميهم البعض «أتباع الكفر والإلحاد والاستكبار العالمي»، فإنه لا بد من تسليط الأضواء على ظاهرة العنف والإرهاب كلها ومحاولة معرفة من وقف وراءها منذ البداية، ومن استفاد منها بعد مرور نحو ثلاثين عاما على هذه الظاهرة، وعلى انتصار الثورة الإيرانية التي حتى إن هي نفت وبقيت تنفي على ألسنة الذين تناوبوا على التحدث باسم الجمهورية الخمينية أي علاقة لها بالتنظيمات والتشكيلات التي سارت على هذا الطريق المنحرف فإنها على الأقل هي المسؤولة مسؤولية فعلية ومعنوية عن كل هذا الذي جرى منذ البداية وحتى الآن.

كانت الأجهزة الألمانية الغربية وعلى وجه التحديد المخابرات الألمانية الغربية في ذلك الحين و«سي آي إيه» الأميركية قد أنشأت في باكستان وحدها وحيث امتدّت هذه التجربة إلى أفغانستان لاحقا أكثر من خمسين ألف مدرسة (كتاتيب) لتعليم الجهاد وكان الهدف تفجير الاتحاد السوفياتي من الداخل ودفع الجمهوريات الإسلامية التي كانت جزءا منه للثورة عليه والانفصال عنه ومنعه من التمدد في اتجاه الدول والمناطق التي كانت ولا تزال تعتبر حيوية واستراتيجية بالنسبة إلى الغرب كله وهي الدول والمناطق المطلة ولو عن بعد على حقول النفط في منطقة الخليج العربي.

بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان الذي مع نهايات هذا العام يكون قد مر عليه وعلى ثورة إيران الخمينية أكثر من ثلاثين عاما، بدأ الصراع على هذه المنطقة الحيوية والهامة يأخذ طابعا مكشوفا عنوانه «الجهاد» ضد المد الشيوعي والقوات السوفياتية المحتلة، وتحت هذا العنوان جرت عمليات تحشيد وتجييش تحت إشراف أجهزة الـ«سي آي إيه» والأجهزة الاستخبارية الغربية كلها فاختلط الحابل بالنابل وتداخلت الأمور بين أصحاب النيات الطيبة والمخلصين الذين كان حافزهم الدفاع عن ديار الإسلام والمسلمين وبين الذين كان همهم الوحيد تدمير الإمبراطورية السوفياتية الحمراء وإقامة رؤوس جسور لنفوذهم الاستراتيجي في هذه المنطقة الاستراتيجية في إطار خططهم الكونية. وهكذا فقد بدأت تظهر بعض التشكيلات التي تبلورت لاحقا وتحولت إلى «القاعدة» و«طالبان» وإلى كل هذه التنظيمات العُنفيّة التي اتخذت أسماء وأشكالا متعددة في المنطقة العربية كلها وفي العالم بأسره.

هنا لا بد من العودة إلى الوراء قليلا حيث استطاعت إسرائيل بمساندة حلفائها في العالم الغربي كله وفي مقدمته الولايات المتحدة ربط النضال من أجل فلسطين الذي كان قد اتخذ طابعا قوميّا بالصراع بين المعسكرين المتطاحنين: المعسكر الشرقي الاشتراكي والمعسكر الغربي الرأسمالي، وبالحرب الباردة كلها على كل جبهاتها في الشرق الأوسط، وامتدادا حتى إندونيسيا وماليزيا وفيتنام. ولعلّ ما تمت معرفته مبكرا أن الدولة الإسرائيلية التي كانت قد أقيمت مع انفجار هذا الصراع قد تمكنت بمساندة إعلام الغرب النشط والمتفوق من إظهار نفسها على أنها الخندق المتقدم للدفاع عن القيم الغربية الديمقراطية، وعن مصالح الدول الرأسمالية ومواجهة المد الشيوعي في هذه المنطقة الحساسة والاستراتيجية الذي تمكن من إقامة رؤوس جسور له فيها من خلال وصول بعض القوى والأحزاب القومية و«التقدمية» إلى حكم بعض الدول العربية الرئيسية من بينها مصر وسورية والعراق والجزائر.

وحتى منظمة التحرير التي كانت أول زيارة قام بها رئيسها السابق الراحل ياسر عرفات في نهايات ستينات القرن الماضي إلى موسكو بصحبة الرئيس جمال عبد الناصر قد اعتُبرت إنْ في الولايات المتحدة أو في الغرب كله على أنها صناعة شيوعية سوفياتية وأنها حركة إرهابية وليست حركة تحرر. وحقيقة أن هذا التقدير الذي قدم لإسرائيل خدمة لا تقدر بثمن قد بقيت مستمرة ومتواصلة حتى بدايات ثمانينات القرن الماضي حيث انتقلت الحالة الفلسطينية من بيروت بعد الغزو الإسرائيلي الشهير للبنان إلى تونس فبدأت الاتصالات السرية، وشبه العلنية في بعض الأحيان، بين واشنطن ومعها معظم العواصم الأوروبية الغربية وبين ياسر عرفات وهي اتصالات اتخذت أشكالا متعددة لكنها بقيت تحرز تقدُّما متلاحقا إلى أن انعقد مؤتمر مدريد الشهير في نهايات عام 1991 بعد حرب إخراج القوات العراقية الغازية من الكويت.

والسؤال الذي بالإمكان طرحه الآن وبعد كل هذه السنوات الطويلة التي شهدت تطورات غيرت واقع هذه المنطقة وواقع العالم كله هو: ألم يكن في مصلحة الفلسطينيين والعرب يا ترى أن لا يربطوا نضالهم من أجل فلسطين بصراع المعسكرات وبالمواجهة التي احتدمت بين ما كان يسمى المعسكر الغربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي؟!

من المفترض أن الإجابة على هذا السؤال في ضوء تحولات العقدين الأخيرين من الأعوام الماضية غدت معروفة ومتفقا عليها، وهي أنه بغض النظر عن النيات الحسنة كان مقتلا سياسيا للقضية الفلسطينية وللقضايا العربية الأخرى أن يُربط النضال و«الجهاد» من أجل هذه القضية المقدسة بل ومن أجل هذه القضايا بصراع المعسكرات وبالتطاحن بين الغرب الذي كان يعتبر نفسه، وهو كذلك، ديمقراطيا وحارسا لحقوق الإنسان في العالم كله وبين الشرق الذي يقوده الاتحاد السوفياتي بشموليته وديكتاتوريته وبأنظمته القمعية، التي كانت بعض الأنظمة العربية التي تعتبر نفسها تقدمية وثورية، تشكل التابع المتذيّل لها.

في كل الأحوال لقد وجدت إسرائيل نفسها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبعد أن تراجعت ظاهرة المد القومي العربي كل هذا التراجع دون «وظيفة» وكان حرمانها من المشاركة في حرب تحرير الكويت ولو بجندي واحد أول مؤشر على أنها بحاجة إلى عامل آخر للاحتفاظ بهذه الوظيفة فكانت ظاهرة «القاعدة» والإرهاب الذي يتقنّع بالإسلام بمثابة الهدية التي هبطت عليها من السماء وبخاصة بعد تمادي هذه الظاهرة ووقوع كارثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 التي استغلها الإسرائيليون لإثبات أن دولتهم، التي لعبت دور المخفر المتقدم للغرب في هذه المنطقة الاستراتيجية والحساسة زمن صراع المعسكرات والحرب الباردة، ضرورية ولا غنى عنها للعب الدور نفسه وبكفاءة أكثر لمواجهة المد الإسلامي الذي غدا هذا الغرب مقتنعا على صعيد الرأي العام بأنه هو «القاعدة» وأنه هو كل هذه التنظيمات الإرهابية التي ضربت في الولايات المتحدة وفي بريطانيا وإسبانيا وفي فرنسا وألمانيا والعالم كله.

كانت سنوات ما قبل استفحال ظاهرة الإرهاب التي أُعطيت هوية إسلامية من قِبل أصحابها ومن قبل إسرائيل والدوائر الغربية المتصهينة قد شهدت سعيا حثيثا استُخدمت فيها حتى الأعمال «الدرامية» في هيئة أفلام ومسلسلات لإخافة الغرب الأوروبي من المد الإسلامي المتنامي وتحوله مرة أخرى إلى غزو عسكري، إذا كان وصل في المرة الماضية إلى فيينا في قلب أوروبا وإلى الأندلس في إسبانيا فإنه قد يصل هذه المرة إلى الجزيرة البريطانية وإلى الدول الإسكندنافية وحتى إلى ألمانيا التي فيها جالية تركية مؤثرة وكبيرة.

في هذا الوقت ظهرت «القاعدة» التي كانت وُلدت ولادة غير شرعية في معسكرات الـ«سي آي إيه» في بيشاور بباكستان وفي قندهار بأفغانستان وظهرت أيضا كل تكاثراتها البكتيرية التي اتخذت جميعها أسماء إسلامية وضربت تحت عناوين هذه الأسماء في عدد من الدول الغربية الأوروبية. وهنا فإن المؤسف حقّا أن حركة «حماس» قد لجأت إلى العمليات الانتحارية في الوقت الخطأ وبينما كانت قد بدأت بعد كارثة سبتمبر عملية فرز شملت العالم كله بين إرهابيين ومقاومين للإرهاب فكان أن جرى تصنيف النضال الفلسطيني على أنه جزء من إرهاب «القاعدة» وأخواتها، وحصل ذلك الذي حصل حيث اجتاح أرييل شارون الضفة الغربية مرة أخرى بحجة أنها تحولت إلى أوكار إرهابية وفرض على الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات ذلك الحصار القاتل الذي لم ينتهِ إلا بعد اغتياله بطريقة لا تزال تحوم حولها شبهات كثيرة.

إن هذا هو ما حصل وإنه لو جرى التدقيق في هذه المسيرة الإرهابية التي اتخذت الإسلام زورا وبهتانا غطاء والتي استهدفت المسلمين وديارهم أكثر من استهدافها لما تسميه «الكفر والإلحاد» و«الاستكبار العالمي» لكانت النتيجة التوصل إلى حكم قاطع بأن «القاعدة» ومعها أخواتها قد قدمت لإسرائيل خدمة لا تقدر بثمن، وأنها بما فعلته وقامت به إنْ في الولايات المتحدة وإن في الغرب كله قد عززت القناعة لدى هذا الغرب بضرورة دعم إسرائيل لتبقى تقوم بالوظيفة السابقة نفسها التي كانت تقوم بها في مرحلة الحرب الباردة وصراع المعسكرات، ولتستمر بدورها كخندق متقدم لمواجهة «الإرهاب الإسلامي»! هذه المرة الذي يتهدد دول الغرب والحضارة والقيم الغربية.

ولذلك حتى إن كان ظهور «القاعدة» وظهور كل هذه التنظيمات الإرهابية فعلا التي تتغطى بالإسلام والإسلام بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، بعيدا حقيقة عن الأصابع الإسرائيلية فإن ما قامت به في خدمة إسرائيل يضعها على أرضية الصناعة الإسرائيلية. فالمهم في مثل هذه الحالة هو النتيجة، والنتيجة التي لا نقاش فيها هي أن هذا الإرهاب الذي استهدف المسلمين أكثر من استهدافه لأميركا لم يستفد منه إلا الإسرائيليون الذين كانوا يعتبرون أن وظيفة دولتهم هي حماية المصالح الغربية من المد القومي العربي المتحالف مع الاتحاد السوفياتي والشيوعية العالمية وأصبحوا يعتبرون أن وظيفة هذه الدولة هي مواجهة التطرف الإسلامي الذي حل محل الشيوعية في تهديد الغرب وحضارته وقيمه الديمقراطية.