ميزانية ومسؤولية

TT

تابع السعوديون كعادتهم سنويا إصدار موازنتهم المالية للسنة القادمة والتي تعلن فيها الحكومة عن أرقام الصرف التقديرية والمداخيل المتوقعة، وهذه السنة كانت الأرقام هي الأكبر في تاريخ السعودية، مظهرة تركيزا متواصلا على المشاريع التنموية والبنى التحتية، وتحديدا نال التعليم والقطاع الصحي نصيبا مهما ولافتا من إجمالي ما تم تخصيصه كمشاريع وموازنة.

ولكن السعوديين تبادلوا التعليقات بشكل كبير على تعليقات مليكهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وهو يخاطب وزراءه خلال إعلان الميزانية مبديا امتعاضه من مشاريع «لم تتم» وأخرى «اختفت» وهو أسلوب جديد لم يعهده السعوديون من قبل، ويأتي استمرارا لنهج الإصلاح الإداري ومحاربة الفساد، النهج الذي أطلقه الملك في خطابه الذي بات «علامة» بعد كارثة سيول جدة والتي أودت بحياة أكثر من 120 شخصا ودمرت آلاف المنازل والسيارات وشردت المئات من الناس، لأن مأساة جدة كشفت المستور ووضحت بشكل عملي فكرة «المشاريع المختفية»، فجدة لأكثر من عقد تعاني من «اختفاء» مشاريع الصرف الصحي وبقاء المسؤول عنها حرا طليقا بلا عقاب وهي مأساة مستمرة لا تزال تحصد الأرواح نتاج الأمراض الفتاكة التي انتشرت نتاج غياب شبكة الصرف الصحي.

وفي خطاب الملك يتذكر الناس الكلمات التي استخدمها وهو يصف حجم الكارثة وهو يبدي حزنه الشديد وتأثره العميق نتاج ما حدث والمآسي التي تكونت، ويأمر فورا بتشكيل لجنة لتبيان ما حدث والتحقيق مع «أي من كان» وعليه يبدو تعليق عضو مجلس الشورى السعودي الدكتور عبد الرحمن الهيجان بأن تعاطي وسائل الإعلام مع كارثة جدة «مبالغ فيه» يبدو تعليقا غريبا وخارج الواقع، وكان الأولى من الدكتور التفضل وبعض من صحبه الكرام بزيارة تفقدية لبعض المواقع المدمرة وزيارة ذوي الموتى وتقديم العزاء لهم والتطوع مع لجان المساندة لتقديم يد العون أو العمل على استدعاء مسؤول الصرف الصحي السابق.

هناك حالة من التشفي فيما حدث لجدة ما بين بعض عباقرة المنبر الديني الذين تفتق ذهنهم الحاذق وأعلنوا أن ما أصاب جدة هو نتاج معاصي أهلها (شو موفقين هالأولاد!) هو أقل ما يقال في حق من قال بذلك، وهناك من يحاول وضع اللوم برمته على تجار وأهالي جدة (لا ياشيخ؟.. مهضومه والله!) أهذا الذي تمكنت منه؟

عموما هناك خطاب ملكي جديد وسقف أخلاقي وضح للمطالبة والمساءلة بالحق الكريم للمواطن، ولعل الحراك الشعبي الذي حصل في أوساط الشباب، وانعكس بشكل أكثر من إيجابي للتعامل مع نتاج الكارثة التي أصابت المدينة، لهو أبلغ رد أن الشباب السعودي بخير، هو فقط بحاجة لمنح الفرصة الكريمة له، وكم كان جميلا ومبهرا التفاعل الذي تم من جهات خيرية بالرياض والمنطقة الشرقية مع إخوانهم وأخواتهم المصابين في جدة. كل الأمل أن لا تقيد هذه الروح الوطنية المبدعة الصادقة الفعالة بقيود من البيروقراطية والتنطع التي ستقتل حيوية إيجابية نحن في أمس الحاجة إليها.

الميزانية التي تم الإعلان عنها هي بشرى خير للسعوديين وتعليق الملك المقتضب ولكن الواضح للوزراء هو جرس إنذار عام أن هناك توقيتا أخلاقيا جديدا ولن تكون الفرحة بأرقام الميزانيات واتجاهات صرفها ولكن بنجاح وفعالية ما تم تحقيقه وإنجازه وتوجيهه لنهضة البلاد وأمان وكرامة المواطنين فيه. هنيئا للسعودية بميزانية جديدة ولافتة وتهنئة أكبر بحس مسؤول جديد يضاف للحملة على الفساد المدمر.

[email protected]