المُشكل التنموي العربي والإدارة السياسية

TT

كان من نتائج القمة الاقتصادية بالكويت، تكليف الجامعة العربية بتقديم تقارير في القطاعات المختلفة عن الأوضاع التنموية في البلدان العربية، وبالتعاوُن مع الدول العربية لجهات إرسال المعلومات للجامعة، ومُتابعة الأسئلة والاستشكالات والاستفسارات. وقد استمع مجلس الجامعة مؤخراً إلى تقريرٍ مبدئيٍ (أُعدَّ بالتعاون مع وكالة التنمية بالأُمم المتحدة) أثار سُخط كثرةٍ من أعضاء المجلس، من ممثلّي الدول بالجامعة؛ ولعدة جوانب: أرقام البطالة، ومسائل الفقر، ومسائل الأمية، ومسائل تعليم النساء، والنموّ الاقتصادي العامّ. ورغم مبدئية التقرير وقابليته للمراجعة والتنقيح والتصحيح؛ فإنّ الأرقام جاءت مُخيفةً في الكثير من الجوانب المبحوثة أو المستطلَعة. ففي قضية البطالة بين الشباب على سبيل المثال، ما وقعت عند نسبة الـ6.50% غير دولة الإمارات العربية. وهذا فضلا عن ارتفاع نسبة الفقر والبطالة في بعض الدول العربية بحيث تزيد على الـ50% من عدد السكّان في بعض البلدان. وقد احتجَّ بعضُ ممثّلي الدول بالجامعة على نقص المعلومات، أو على خطئها، أو على تجاهُل الظواهر الإيجابية والاكتفاء بذكْر السلبيات. وقد يكونُ شيء من بعض ذلك أو كُله صحيحاً ويستحقُّ التعديل والتطوير. لكنّ المسألة أكبرُ من ذلك وأبْعَدُ مدى. فما ورد في التقرير المبدئي سبق أن ورد مثلُهُ في أربعة تقارير كتبها مثقفون واقتصاديون عرب، ورعتها وكالة التنمية بالأُمم المتحدة. كما سبق وُرودُ بعض الوقائع والإحداثيات في عشرات التقارير الصادرة عن جهاتٍ إقليميةٍ أو أوروبية أو عربية: لدينا مشكلاتٌ أساسيةٌ في التنمية البشرية أو الإنسانية تتجلّى في الفقر والبطالة وارتفاع نسبة الأمية، وتراجُع مستويات التعليم، وضَعْف المشاركة في النموّ العالمي، وضعْف مؤسَّسات الخدمات العامة، وضعف مفاهيم المواطنة وتطبيقاتها. وقد ركّز المثقفون من كتَبَة التقارير السابقة على الضعف الثقافي والعلمي العربي؛ من حيث عدد القراء، والكتب المترجَمة إلى اللغة العربية من اللُّغات العالمية الحية، وضعف مشاركة المرأة، وسريان الالتباس والاختلال إلى مفاهيم الهوية والانتماء، والتشققات الاجتماعية والانفصامات ذات الأصول الإثنية والمذهبية. وما كانت هناك رغم الاحتجاجات واتّهامات التحيُّز من جانب ممثلّي الدول إجابةٌ رقميةٌ أو تقديريةٌ عن أساب هذا التردّي. وقد أساء إلى بعض تلك التقارير تظاهُر إدارة بوش - التي كانت تشنُّ حملاتٍ عسكرية و«ديمقراطية» على سائر الأنظمة العربية - بدعْمها؛ كأنما كانت حالات العجز والقصور والضعف التي تُعاني منها الأنظمة؛ مبرّراً للهجمات الأميركية للهدم والتخريب. وبالفعل فإنّ بعض المثقفين الليبراليين الجُدُد تشجّعوا بالهجمة الأميركية وراحوا يعقدون الاجتماعات، ويُصدرون البيانات حول التغيير الديمقراطي المنشود. ثم انقضتْ تلك الموجّة كما بدأت بذهاب إدارة بوش وتغيُّر السياسات الأميركية تجاه المنطقة في الإدارة الجديدة من جهة، وانصراف الأنظمة والمثقفين عن الدعوة للديمقراطية بعد أن لم يعد أحدٌ يُطالبُ بها! على أنّ التقارير المقدَّمة إلى قمة الكويت الاقتصادية - كما إلى قممٍ عربيةٍ أُخرى كثيرة - عن ضرورات ومشروعات التعاوُن المشترك، والمتابعة السالفة الذكر بالجامعة العربية، لا علاقةَ لها بالتسييس أو التحيُّز أو الحملة على الأنظمة. بل إنها تأتي من ضمن مؤسسات النظام العربي، وبغرض ترميمه وتقويته. فما يقولُهُ التقرير إحصائياتٌ مجرَّدةٌ أو عارية، وما تدعو إليه ضروراتٌ من أجل الاستقرار والاستمرار، تكادُ تفقأُ العينَ بظهورها ووضوحها. فلا يفيدُ فيها الإنكار والمكابرة. بل هي تدعو ذوي العقول والإحساس بالمسؤولية إلى مُتابعة هذه الظواهر السلبية الهائلة، بما يليقُ بها من الاهتمام، لتأثيراتها الفاجعة على حاضر العرب ومستقبلهم.

والواقع أنّ الدولَ العربية لا تخلو أيٌّ منها من وجوه نجاحٍ أو بروز وإن لم يتحول ذلك إلى «ظاهرة» في أيٍّ منها. ثم إنّ بعضَ هذه الظواهر عالمي ولا يختصُّ به العربُ أو بعضُ دُوَلهم. لكنْ ليس في أيٍّ من هذين العاملَين تعزيةٌ من أيّ نوع. ولذلك يكونُ علينا أن نتتبَّعَ الظواهر المُصاحبة أو التي تقعُ ضمن مشكلات الفقر والعَوز، والبطالة، وتدنّي مستويات التعليم، وتوسُّط نِسَب النمو أو انخفاضها. وأقصِدُ بالظواهر المُصاحبة ما يمكن اعتبارُ الإدارة السياسية سبباً رئيسياً فيه؛ وإن لم تكن السبب الوحيد. و«الظواهر المُصاحِبة» للحالة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية المتفاقمة، تنحصرُ على وجه التقريب في خمس: التشقُّقات ووجوه الانقسام التي تشهدُها المجتمعاتُ العربية. وهذه مسائل قديمة نسبياً، لكنّ الجديد فيها النواحي الدينية والمذهبية. وثاني تلك الأمور: تعطُّلُ التداوُل على السلطة في أكثر أقطار الوطن العربي. وثالثُ تلك الأمور طرائق إدارة الشأن العامّ أيضاً في أكثر أقطار الوطن العربي. ورابع تلك الأُمور: علائق الدول العربية فيما بينها، وفي الإقليم ومع العالم. وخامسُ تلك الأُمور: القضية الفلسطينية في مرحلتها الجديدة، والتحديات التي تطرحُها ومنها القديم المعروف، والجديد المتمثّل في الانقسام الفلسطيني الداخلي.

في الظاهرة الأولى المتعلقة بالانقسامات الاجتماعية المستجدة على المستوى الديني والمذهبي، نُلاحظُ أنّ الانقسامات المذكورة ظهرت في السنوات الأخيرة - إلى جانب الانقسامات الإثنية والجهوية - في عدة بلدانٍ عربيةٍ ما عرفتْها من قبل. وفي الوطن العربي تمايُزاتٌ دينيةٌ ومذهبيةٌ تاريخية؛ لكنها ما صارت مشكلةً سياسيةً إلاّ منذ نحو العقد أو العقدين. ويمكن أن نذكرُ هنا الإحياء الديني الإسلامي والوعي المختلف الذي نشره باعتباره عاملا مهماً في الانقسام. كما يمكن أن نذكر التدخلات الإيرانية. لكنّ هذين العامِلَين ليسا كافيين؛ وبخاصةٍ في بلدانٍ مثل الصومال واليمن والسودان. ولذا لا بُدَّ في مثل هذه الحالات من البحث في مسؤولية الإدارة السياسية، والنظر في مسؤولية الإرادة السياسية حضوراً وغياباً.

أما الظاهرة الثانيةُ المؤثّرة في كل شيء تقريباً، فهي تعطُّل التداوُل على السلطة في الأنظمة الوراثية وغير الوراثية. والمُلاحَظُ أنه في الأنظمة غير الوراثية فإنّ هذا التعطُّل يسري من رأس النظام إلى أخمص قدميه. وقد كانت لذلك آثارٌ مُدمِّرةٌ على المستوى الاجتماعي والمستوى السياسي. وأول تلك الآثار غياب المشاركة من جانب النُخَب أو ضعفها، والغربة بين الحاكم والجمهور لتضاؤل فكرة الشرعية أو احتقارها. وقد شهدت المرحلةُ الماضيةُ أنظمةً تحاول أن تصطنع لنفسها شرعيةً ثوريةً أو تغييرية؛ لكن هذه الأمور غابت منذ ثلاثة عقود. وبقي الحال على ما كان عليه دونما حجةٍ غير القوة العارية.

أما الظاهرةُ الثالثةُ المصاحِبة لمشكلات الفقر والأمية وسوء الأحوال الصحية والتعليمية والثقافية فتتمثّلُ في طرائق إدارة الشأن العامّ. ويشملُ الشأنُ العامُّ بحسب ما هو معروفٌ في الدول الحديثة أربع مسائل رئيسية: الحِراك السياسي، وحكم القانون، وعمل مؤسسات الخدمة العامة، والتوجُّه الإنمائي. وكما يشمل الحراك السياسي مسألة التداول على السلطة، يشمل أيضاً التكون الحزبي، وعمل مؤسسات المجتمع المدني، والانتخابات الحرة والمنتظمة. ويشمل حكم القانون مسائل العدالة القضائية، ومسائل الحقوق والواجبات وكيف يجري التعامُل معها، بحيث يُضفي ذلك على النظام مشروعيةً تقومُ على الشراكة بين الدولة والمواطن. أمّا عملُ مؤسسات الخدمة العامة في الصحة والتعليم والبُني الأساسية؛ فإنه لا يستقيمُ إلا بالتكوين المتطور، وحكم القانون، والمراقبة والمُحاسبة. لكنْ كيف يستقيم ذلك ما دام الأصل الدستوري المتمثل في التداول على السلطة غائباً أو ضعيفاً، وكذلك الأمر مع حكم القانون. وما دامت المؤسساتُ لا تعملُ على مدياتٍ متطاولةٍ فإنّ الإرادات الطيبة أو الفوقية يصعُبُ أن تُحدث تنميةً وهذا إذا سَعَتْ حقاً إليها.

أما الظاهرة الرابعةُ في الحاضر الدولتي العربي فتتمثَّلُ في ضآلة العمل العربي المشترك، وضآلة الدور حتى عند البلدان العربية الكبيرة والتاريخية. وأعني بذلك ليس المسألة الاقتصادية الرافعة للتنمية وحسْب؛ بل والجانب السياسي. ففي الجوانب الاقتصادية ما صار العربُ تكتلا اقتصادياً يُحدث تنميةً مستدامةً في أقطارهم ومُحيطهم، وما صاروا قوةً اقتصاديةً وسياسيةً وازنةً تحولُ دون تكالُب الأُمَم عليهم، وتحلُّ المشكلات، وتدفعُ دول الجوار إلى التشارُك الاستراتيجي معهم بدلا من مُحاولة «ملء الفراغ» الذي خَلَّفَهُ ضعْفُهُم أو غيابُهُم.

أما الظاهرةُ الخامسةُ فهي مترتبةٌ على الرابعة، والمعنيُّ بها قضية فلسطين في المرحلة الحاضرة. وللقضية اليومَ جانبان: جانب الانقسام الفلسطيني، وجانب التحدي الصهيوني المستمرّ. فقد عجز النظامُ العربيُّ عن لأْم الصدع الفلسطيني الكبير والمستمرّ منذ وفاة الرئيس عرفات عام 2004. وقد تفاقم باستيلاء حماس على غزّة عام 2007. وقد امتدت المحادثات بين الطرفين المتصارعين لقرابة السنتين دونما فائدة. وما اهتمّ لها بالمعنى الإيجابي غير المملكة العربية السعودية ومصر. بيد أنّ شيئاً جدياً ما حصل حتى الآن؛ في حين تتوالى اتهامات التخوين من الطرفين يومياً تقريباً. وإذا كانت المشكلة في الأصل من صنع الفلسطينيين أنفسهم؛ فإنّ عجز النظام العربي عن التصدي لحلّها له دلالاتُه الفاقعة. وفي الجانب الآخَر هناك إرادةٌ دوليةٌ فعليةٌ للعودة للتفاوض والوصول إلى السلام. بيد أنّ عنصر الحضور والضغط العربي ما وصل إلى الحدود التي تُرغم الدول الكبرى على تطلُّب «الحلّ العادل» خشية الانفجار.

لقد ركّزت تقاريرُ القمة الاقتصادية العربية بالكويت ومُلحقاتها ومتابعاتها على أمرين: المشكلات الاقتصادية والتنموية، والعمل العربي المشترك والضروري لمعالجتها. ونحن نعرفُ أنّ التجارب التنموية الكبرى في العالم المعاصر قادتْها الدول وإداراتُها. وقد حاولتُ هنا أن أقول إنّ ضعف النظام العربي وعجزه في مسائل التنمية الإنسانية، ناجمٌ عن ضعف الوحدات المشاركة فيه ولأسبابٍ تتعلّق بالإدارة السياسية، والإرادة السياسية في ملفاتٍ رئيسية.

كان الرئيس رفيق الحريري يقول: إنّ البشر إنما ينشئون دولا وأنظمة لسببين: صون مصالحهم الوطنية والقومية، وتحسين معيشتهم وأُسلوب حياتهم وحياة أولادهم. وفي ضوء تقرير الجامعة العربية الأخير يحق لنا أن نتساءل: أين هي دول النظام العربي الحالي من تحقيق هذين الهدفين؟!