آخر العام: بين العرب والغرب

TT

لن أتحدث لكم عن موضوع الحجاب الكامل الذي يشغل فرنسا في نهاية هذا العام والذي قد يصدر قانون بمنعه قريبا ليس كرها بالمسلمين على عكس ما نظن نحن وإنما حفاظا عليهم أو بالأحرى عليهن. أعترف شخصيا بأني لم أصطدم بالبرقة الأفغانية إلا مرة واحدة على الرغم من أني متسكع كبير في الشوارع. وكثيرا ما أحدق في وجوه السيدات والآنسات العابرات وأتغذى جماليا وروحانيا، وأحيانا أدوخ.. فجأة وقعت على إحداهن وكانت امرأة جميلة طويلة تلفت الانتباه حتى بدون برقة. وتساءلت ماذا تربح هذه السيدة الشابة من لباس سوف يلفت إليها الانتباه ويسبب لها الإزعاجات في كل مكان؟ أنت في باريس وليس في أفغانستان أو الباكستان. لكل مقام مقال.. ما الحاجة إليه وهو غير ديني على الإطلاق أو بالأحرى غير قرآني. أقول ذلك وبخاصة أن فرنسا تعترف بالحجاب الذي يغطي الشعر فقط ويخلع الهيبة والجمال على وجه المرأة المسلمة. هذا ما صرح به الرئيس أوباما والرئيس ساركوزي وآخرون عديدون. ولا أحد يفرض عليها اللباس الأوروبي أبدا أو الميني جيب! معاذ الله. ولكن خير الأمور أوساطها. ألا يكفي ذلك؟ لماذا المبالغات والاستفزازات عن طريق تغطية كل شيء من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين مع فتحتين فقط أمام العينين؟ لمصلحة من يتم ذلك؟ كم أصاب بالأضرار مصير السيدات العربيات المسلمات هنا في بلاد الغرب؟ وهن من أفضل وأرقى السيدات في العالم. هناك حتما شيء غريب ومريب وراء هذه القصة. هناك جهة معينة تريد أن تفتعل المشاكل وان تثير صدام الحضارات بين جالياتنا المغتربة والسكان الأصليين. وكم يثلج ذلك صدر اليمين المتطرف وكل كارهي العرب والإسلام هنا. كم يعطيهم أوراقا مربحة للتشنيع بنا وبتراثنا وقيمنا وحضارتنا.

ولن أتحدث لكم عن مغامرة نصر حامد أبو زيد في مطار الكويت بعد أن قرأت القصة كاملة في «الأوان» كما رواها هو شخصيا. أعتقد أنهم قدموا له ولنا جميعا أكبر خدمة في حياته. فقد خرج من القصة رافع الرأس بعد أن كان مهزوما في البداية. كيف تحولت الهزيمة إلى نصر؟ هذا هو السؤال يا نصر أبو زيد. لقد انقلب السحر على الساحر وفشل السلفيون في إسكات صوت أحد كبار التنويريين العرب في هذا العصر. لقد ساهموا في نشر أفكاره دون أن يدروا. وكذلك ساهموا في رفع أسهم المفكر الكويتي أحمد البغدادي وكل تلك الكوكبة المستنيرة التي تتحلق حوله في دولة الكويت التي كانت أولى منارات العالم العربي. وكم نتمنى لو أنها ستبقى. من منا لم يعش ردحا من الزمن على مجلة العربي الشهيرة أطال الله في عمرها؟ كانت فرحة طفولتنا وشبابنا الأول. كانت غذاءنا الثقافي ومربع خيالنا والإطار الجامع الموحد بيننا من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق وما بينهما. من منا لم يستفد من سلسلة عالم المعرفة الشهيرة ومجلة عالم الفكر وبقية المطبوعات والمناقشات التعددية الليبرالية التي كانت تضج بها دولة الكويت؟ سقياً لتلك الأيام..

أخيرا لن أتحدث لكم عن مفكر فرنسي رائع تشبه قصته قصة نصر أبو زيد ولكن بالمعكوس. انه جان كلود غيبو صاحب الكتب الشهيرة التي أتحف بها المكتبة الفرنسية مؤخرا: ككتاب خيانة التنوير، وسواه. هذا الرجل عرف كيف يشخص مرض الحضارة الغربية بكل تمكن واقتدار. لقد عرف كيف يضع يده على الجرح أو على الخلل الأساسي الذي أصاب هذه الحضارة المتغطرسة التي تعتبر نفسها وكأنها معصومة. وبالفعل فقد حققت إنجازات علمية وفلسفية وديمقراطية لا مثيل لها في التاريخ. ولكنها انحرفت أيضا وارتكبت جرائم مرعبة بعدئذ. وهذه الانحرافات والخيانات هي التي يشخصها لنا هذا المفكر المحترم. ولكنه ارتكب جريمة في أحد الأيام عندما ألف كتابا بعنوان: لماذا عدت إلى المسيحية من جديد؟ بالطبع لم يعد إلى محاكم التفتيش ولا إلى الأصولية المسيحية ولا حتى إلى الطقوس والشعائر. عاد فقط إلى جوهر الرسالة الإنجيلية معترفا بأنها تشترك مع الرسالة القرآنية في بعض النقاط الأساسية. ثم وضع مخطوطته عند البان ميشيل إحدى كبريات دور النشر الباريسية. وبعد فترة التقى بالناشر فبادره هذا قائلا وهو محرج جدا: أستاذ ألا يمكن أن نغير العنوان؟ ألا يمكن أن نحذف كلمة: المسيحية؟ لاحظوا الفرق: في الكويت يُطرد أبو زيد بحجة أنه غير مسلم أو مرتد عن الإسلام. وفي فرنسا يُحتقر جان كلود غيبو وتُمارس عليه الرقابة القمعية لأنه مسيحي متخلف! هذا المثال يثبت لكم الفرق أو الهوة السحيقة التي تفصل بين العصر العربي الإسلامي، والعصر الأوروبي الإلحادي ولا أقول العلماني. حذار! هناك فرق كبير بين الكلمتين. وللحديث بقية. وكل عام وأنتم بخير.