الفراغ الديبلوماسي تملأه عادة الحرب

TT

حتى مؤتمر كامب ديفيد، كان اطار السلام والتسوية لا يزال قائماً، ولو مثل هيكل عظمي: المفاوضات على المسار الفلسطيني صعبة وبطيئة ومعقدة لكنها مستمرة. والمفاوضات على المسار السوري متوقفة ومعلقة لكنها غير ملغاة. والولايات المتحدة عاجزة عن تحقيق اي خرق سياسي، لكن رئيسها شخصياً يتولى الوساطة. ومسؤول الملف المستر دنيس روس لا يحاول شيئاً لكنه موجود ومنصبه موجود ومهمته سارية ولو باخفاق.

ثم، تحدث التطورات التالية: ينتهي كامب ديفيد الى الفشل، ويترك ايهود باراك ارييل شارون يذهب الى المسجد الاقصى، ثم ينسحب من الحياة السياسية ويخرج العمال من الحكم، ويمضي شارون اكثر من شهر في تشكيل «حكومة ائتلاف وطني» هي في الحقيقة حكومة حرب. وفي واشنطن يأتي جورج بوش الى البيت الابيض ومعه كولن باول وديك تشيني، وتوقف الولايات المتحدة كل تعاط في قضية التسوية.

انه ملف غير موجود. فالمستر باول عندما يأتي الى المنطقة يكون هاجسه الاول العراق. والوسيط الاميركي الدائم لا وجود له ولو من قبيل رفع العتب. واذ ترسل ادارة بوش موفداً خاصاً، تختار ان ترسل مدير السي.اي.ايه، على اساس ان الموضوع امني محلي وليس سياسياً دولياً.

حدث بعد ذلك الآتي: استقبل الرئيس الاميركي الجديد، رئىس وزراء اسرائيل الجديد، مرتين في اقل من ثلاثة اشهر فيما كانت وتيرة الحريق الكبير في الضفة وغزة ترتفع الى حرب معلنة: قصف بالبوارج من البحر، قصف بطائرات الفانتوم، ومذابح يومية، واغتيالات سياسية ورسمية، وتدمير لبنية السلطة الامنية وتهجير وتجويع ومحاصرة. وواشنطن لا تتحرك. وعندما علقت اخيراً على الأمر، قالت ان المسؤول هو ياسر عرفات.

ثم حدث الآتي: في الايام القليلة الماضية، اسقط العراق طائرة استطلاع اميركية، مشيراً بذلك الى ان دفاعاته الجوية التي تغير عليها الطائرات الاميركية والبريطانية لا تزال ذات فعالية، وبعد يوم يدلي الناطق باسم الخارجية الاميركية بتصريح هو الاول من نوعه خلال سنوات طويلة اذ يحمّل سورية المسؤولية في اي عمل يتعرض له الاميركيون عن طريق اي من المنظمات الفلسطينية العاملة من سورية. وذلك بعد عملية الجبهة الديموقراطية ضد المعسكر الاسرائيلي، التي اعقبها استشهاد ابو علي مصطفى في مكتبه في رام الله.

هل هناك من رابط او استنتاج في جمع كل هذه الاحداث والمتغيرات بعضها الى بعض. لا مفر من ان نرى الذي يحدث امامنا لكي نبني عليه. فعندما توضع الشواهد بنفسها امام الاعين الى هذا الحدّ، لا يعود من الضروري البحث عن النوايا والمخططات. واذا اضفنا الى الحرب الاسرائيلية المعلنة والغياب الاميركي المتعمد، العجز الاوروبي الواضح، بدا لنا ان المنطقة دخلت حالة حرب لا تنتظر سوى من يعلنها رسمياً. فالاوروبيون يكتفون ـ او لا يستطيعون اكثر من ذلك ـ بارسال مبعوث الى الفرقاء غير محمل اي ثقل كاف او اي صلاحيات خارقة او اي وعد او اي وعيد. وروسيا، التي هي الراعي الآخر لمؤتمر مدريد، تدرك ان دورها احتفالي منذ البداية. وقد خرج الملك عبد الله من الكرملين هذا الاسبوع بأطيب الكلام، لكن على الصعيد العملي فإن دور روسيا يشبه دور اوروبا. وحتى الآن لم تخرج اوروبا ولا روسيا على العالم ببيان يتعدى الدعوة التقليدية الى «وقف العنف» او «العودة الى المفاوضات» كما دعا الرئيس الفرنسي امس الاول. اي مفاوضات؟

اننا في الحرب، وهي حرب مفتوحة لا يهبّ احد الى اطفائها بل يبدو وكأنها لا تعني احداً. خصوصاً الولايات المتحدة، القابضة على كل شيء والرافضة الآن ان تتحرك في اي اتجاه او في اي دور، باستثناء الدور الذي تبناه بوش منذ مجيئه، وهو يتبنى الموقف الاسرائيلي في ظل ارييل شارون لا سواه. لذلك السؤال الآن لم يعد حول وقوع الحرب، بل متى وحتى اين. فشارون لم يتوقف، منذ اللحظة الاولى لوصوله، عن تأكيد سيرته واثبات ما كان الناس يخشونه، وهو ان كل حل عنده مربوط بالقوة وكل سياسة مربوطة بالحرب. وهذه المرة، بعكس العام 1982، سلاحه الامضى هو الاكثرية الاسرائيلية التي تقول الاستفتاءات انها تؤيده بلا تحفظ في كل ما يفعل. وما يفعله هو بكل بساطة توسيع رقعة الحرب وردم افاق التسوية بالحجارة والجنازات، افقياً وعامودياً، قادة واطفالاً، غزة وبيت جالا. جنين ونابلس فإذا لم تكن هذه هي الحرب فكيف تكون الحروب بعد 11 شهراً من القتال؟

تمرّ المنطقة في اسوأ غياب ديبلوماسي منذ 1967، عندما بدأت في اعقاب حرب حزيران محادثات الدول الكبرى في شأن ازالة الاحتلال. فمنذ ذلك الحين، وحتى مجيء جورج بوش الابن، كان هناك حضور دولي ما، بصرف النظر عن الاخفاق، وطوال الحرب الباردة، كان هناك دائماً مبعوث اممي خاص، او دور للامين العام، او «مشروع» اميركي، مثل «مشروع روجرز»، وكان وزراء الخارجية، الاميركيون او السوفيات، يأتون ويذهبون باستمرار. ثم اصبح الامر وقفاً على الاميركيين وحدهم: لا سوفيات ولا امميين، فالدور لوزير الخارجية الاميركية وحده وللوسيط الاميركي دون سواه. ومع كلنتون اصبح الدور في يد الرئيس نفسه، يكرس له معظم الوقت ومعظم الولايتين.

فجأة يحدث الآتي: يخرج كلينتون في آخر الولاية الثانية مخفقاً، ويحمّل ياسر عرفات، فيما بعد، المسؤولية، وبأنه خذله، ويفوز في انتخابات الرئاسة الاميركية، بعد مخاض طويل، المرشح الذي تعتبره اسرائيل معادياً لها، والرجل الذي يكتب عنه المعلقون الاميركيون المؤيدون لها، اشد المقالات عنفاً، واكثرها خيبة.

لكن جورج بوش لن يخيب اسرائىل على الاطلاق، على الاقل ليس اسرائيل شارون. وسوف يغيب «عن السمع» راضياً، غير ابه بالمشاهد التي تنقل اليه كل يوم. وفي اي حال فقد امضى 42% من وقته حتى الآن في الاجازات، وفقاً لحسابات «النيويوركر» وضيق الوقت لا يسمح بمراجعة كل شيء. وهذا الغياب الاميركي، الطوعي او الممتد، هو اخطر عنصر في الصورة المرتسمة على جبهة الشرق الاوسط الآن. انه اول فراغ ديبلوماسي مطلق منذ 1967. ومثل هذا الفراغ يملأ تلقائياً بالحلول العسكرية وحدها.