إضفاء الصبغة الإنسانية على سياسة الحرب

TT

داخل مركبة «همفي» التي تجول شوارع بغداد الخالية من الحياة في دورية لها، أبقى أحد الجنود على يديه محشورتين داخل الدرع التي تغطي جسده، آملا في الحفاظ عليهما من التعرض للنسف حال اختراق عبوة ناسفة للمركبة.

وحرص زميل له في إخفاء ساق وراء الأخرى، على أمل ألا يفقد سوى واحدة منهما فقط، بينما تمسك ثالث بحمل تعويذة دوما لجلب الحظ الطيب، وهي عبارة عن صليب صغير يحمل الألوان المميزة للجيش تلقاها من أحد الأشخاص داخل كنيسة في أوهايو.

في هذا الصدد، قال ديفيد فينكيل في «غود سولدغرز»، وهو سرد استقصائي للأحداث التي تعرضت لها واحدة من الكتائب خلال العام الذي شهد تنفيذ قرار جورج بوش بتعزيز القوات في بغداد: «كان بحوزة كل جندي صورة مختلفة من هذا الأمر». بمعنى أدق، يغطي السرد فترة 15 شهرا من عمر الكتيبة، نظرا لقرار الجيش تمديد أجل كل جولة.

يذكر أن فينكيل، وهو صحافي يعمل لدى الـ«واشنطن بوست» وسبق له الفوز بجائزة «بوليتزر»، قضى معظم فترة الشهور الـ15 هناك، ولم تقطع إقامته هناك سوى زيارته لبعض الجنود المصابين من أعضاء الكتيبة ممن يتلقون العلاج في مستشفيات تكساس وبيثيسدا. وبالفعل، تمكن فينكيل من تقديم عمل صحافي رائع، أشبه برواية رائعة، تتوغل في أعماق حياة أفراد آخرين، وتترك أثرا عميقا في نفس القارئ بعد انتهائه من قراءتها بفترة طويلة.

خلال موسم العطلات هذا، سيخوض آلاف الأميركيين حربا في أفغانستان نادرا ما يرد ذكرها في نشرات الأخبار المسائية. وسيخوض آلاف آخرون حربا في العراق تحظى بتغطية إعلامية أقل. وقريبا، سيتم إرسال 30000 رجل وسيدة إضافيين في إطار موجة جديدة من التصعيد. بالنسبة لملايين الأميركيين، ممن لا صلة لهم بهذه التجربة، يعرض «غود سولدغرز» همزة وصل بسيطة ومستنيرة لهذا العالم البعيد.

من جانبه، كتب فينكيل: «هناك جنود وقفت حدود قدرتهم على الاختيار عند توقيعهم على العقود والإدلاء بالقسم العسكري. وبغض النظر عما إذا كان انضمامهم إلى القوات المسلحة نبع من أسباب تتعلق بمشاعر وطنية أو مشاعر عاطفية أو الرغبة في الفرار من منزل مفكك أو بسبب الحاجة الاقتصادية، فإن وظيفتهم الآن تتمثل في إطاعة أوامر جنود آخرين ينفذون بدورهم أوامر أيضا. وفي نقطة ما بعيدة للغاية عن العراق يكمن مصدر بداية الأوامر. لكن بحلول وقت وصولهم الرستمية كان الخيار الوحيد المتبقي أمام أي جندي إما حمل تعويذة لجلب الفأل الحسن أو الاختباء وراء درع أو اختيار أي ساق توضع خلف الأخرى أثناء خروجه لتنفيذ الأوامر التي صدرت إليه».

يبدأ فينكيل كل فصل من كتابه بعبارة مقتبسة مضحكة من خطب بوش تتعارض بقوة مع الواقع داخل قاعدة الرستمية، والتي لا تتمتع بحماية كافية وتحيط بها جدران مضادة للتفجيرات وأزقة وقنوات مفتوحة للصرف الصحي. المؤكد أن القراء الذين عارضوا قرار تعزيز القوات والحرب برمتها سيجدون في هذا الكتاب كثيرا مما يدعم وجهة نظرهم.

إلا أنه مع رحيل عام 2007 ومجيء عام 2008، يسرد الكتاب أيضا ظاهرة تراجع أعداد الضحايا في العراق والمؤشرات الأخرى على وجود تقدم لا تخطئه عين، وإن كان بطيئا. أما بالنسبة لأمثالي ممن أيدوا قرار تصعيد الحرب ويؤيدون الآن قرار الرئيس أوباما تصعيد الحرب في أفغانستان، فلن يثبطهم الكتاب بالضرورة عن موقفهم.

إلا أنه يذكرنا بالتكلفة الهائلة التي يتكبدها كثير من الأميركيين والأرواح التي تفقد أو تتبدل إلى الأبد - حياة الجنود وأحبائهم المقربين. في خضم العالم الذي يصفه فينكيل، الذي يتسم بحرارة وعنف وملل وخوف وشجاعة يتعذر وصفها، لا تدور النقاشات حول السياسة المتبعة في فلك الصواب والخطأ.

وكتب فينكيل: «في بعض الأحيان، ينصت الجنود إلى الصراخ المتبادل عبر قنوات التلفزيون ويتعجبون كيف تسنى لهؤلاء الأفراد بتلك البرامج الحوارية معرفة كل هذه المعلومات. الواضح أن معظمهم لم يزر العراق قط، بل وحتى إن كانوا زاروها، ربما كان ذلك في إطار ما يشير إليه الجنود بعبارة «جولة حاجب الرياح»: حيث يصلون إلى القاعدة العسكرية التي يقصدونها عبر طرق متعرجة وينصتون لحديث جنرال أو اثنين ويركبون الـ«همفي» ويزورون سوقا قريبة تحيط بهم جدران مضادة للتفجيرات ويحصلون على عملة تذكارية ثم يعودون أيضا عبر طرق متعرجة. ورغم ذلك، عندما تنصت إليهم يبدون على معرفة بكل شيء، فهم على معرفة بأسباب نجاح قرار التعزيز وأسباب عدم نجاحه في مناطق أخرى.. ».

من ناحية أخرى، أكد كثير من الجنود أن هؤلاء المتحدثين في شؤون الحرب: «ينبغي أن يأتوا على الرستمية. ربما عندئذ سيعودون للظهور في التلفزيون ويصرخون كيف أن الأمر برمته مثير للحيرة والالتباس. على الأقل حينها، سيصرخون ناطقين بالحقيقة».

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»