مديونية الولايات المتحدة لمنظمة الأمم المتحدة

TT

إنه خبر يستحق التعليق وكان ينبغي أن يشد إليه الأنظار، لكنه إنما تسرب لِواذاً من دهاليز منظمة الأمم المتحدة وانساب متستراً في خضم الأخبار العالمية، ربما لأن الأمانة العامة للأمم المتحدة سرَّبته قصداً في الخفاء، وأسرَّتْ به إلى صحفيين على استحياء، مع أنه نبأ لو تعلمون عظيم.

ويقول النبأ الذي انفردت به بعض الصحف: إن ديون المنظمة على الولايات المتحدة الأمريكية بلغت ملياري دولار نتيجة تقاعس هذه الأخيرة عن أداء مبالغ انخراطها في المنظمة الأممية طيلة سنوات خلت، وإن سجل حساب المنظمة أصبح يشير باللون الأحمر إلى عجز المنظمة عن الوفاء بالتزاماتها الشهرية، وإن العجز بلغ 75 مليون دولار، مما أصبحت معه منظمة الأمم المتحدة مشلولة لا تملك النفقات اللازمة لتصريف شؤونها اليومية، وأنها اضطرت إلى أن تأخذ هذه النفقات من صندوق عمليات المحافظة على السلام، وأن الولايات المتحدة تتصدر قائمة الدول التي لا تفي بالتزاماتها المادية نحو الأمم المتحدة، بل ان مديونيتها للمنظمة حطمت الرقم القياسي الذي جعلها تبلغ %64 من مجموع ديون المنظمة المحدّدة في 728 مليون دولار.

ويضيف الخبر أن مبلغ ملياري دولار الذي يشكل مديونية الولايات المتحدة للمنظمة تُشكِّل ثلاثةُ أرباعه مستحَقّات صندوق عمليات المحافظة على السلام، حيث لم يقم القطب الأعظم منذ سنوات بواجب تسديد واجباته حيال هذا الصندوق. ويزيد الخبر ان الدول الأعضاء التي لم تدفع واجباتها لهذا الصندوق ـ وفي طليعتها الولايات المتحدة ـ كانت أبرمت اتفاقاً مع المنظمة يقضي بدفع مبلغ 582 مليون دولار من بين مبلغ المتأخرات، لكن الولايات المتحدة لم تف بالتزامها نحو الصندوق لأن الكونغرس الأمريكي دخل على الخط واشترط شرطاً غريباً ما يزال متمسكاً به حتى الآن، هو عبارة عن مقايضة أخذٍ وعطاء طبقاً لنظام السوق الذي يحكم تعامل الولايات المتحدة في كل مجال.

وهذه المقايضة هي القرار الذي اتخذه النواب الأمريكيون المحترمون والقاضي بأن تُقتطَع واجباتُ دعم الصندوق من واجبات أخرى هي ما يجب أن تسدده الولايات المتحدة لفائدة المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة. لأنها (أي أمريكا) لا يمكنها أن تسدد المبلغين معا. ومن واجب المنظمة الأممية أن تتفهم أوضاعها المادية وتعفيها من أداء ما لا تقدر عليه..

وهكذا وقعت قضية ديون الولايات المتحدة في منطق «ادخال شعبان في رمضان»، كما يقال في المغرب، عندما يُجمَع بين شيئين لا علاقة بينهما.

من الذي يمكنه أن يصدق أن القطبَ الأعظمَ والأوحدَ كبيرَ أغنياء العالم يتعامل مع اليتيمة الفقيرة المسماة بمنظمة الأمم المتحدة بهذا التعامل المزري الذي لا أجد له وصفا آخر؟. لكن وصَفَه معلق سياسي أمريكي بأنه «خيانة شرف من لدن الولايات المتحدة». وقال عنه أحد نشطاء منظمة حقوقية أمريكية «إنه ابتزاز يسبب صدمة نفسية للأخلاق المتعارَف عليها، لأن الولايات المتحدة بتصرفها هذا إنما قامت بعملية نصب واحتيال لحلفائها»، وشهد شاهد من أهلها.

تُقدِم الولايات المتحدة على هذا التصرف المَشين حيال المجتمع الدولي وهي تعلم أكثر من غيرها أنها المستفيدة الأولى من خدمات الأمم المتحدة، وأنها بفضلها أمكن لها أن تأخذ بناصية قيادة العالم. وهل فرضت دولة أخرى على المجتمع الدولي إرادتها مثل ما فعلته الولايات المتحدة التي تستعمل جِزافا ومجازفة حق «الفيتو» لتشل تحركات الأمم المتحدة متى شاءت وبدون أي شعور بالمضاضة بل ولا مجرد الخجل؟.

كنا نَعْذِر الولايات المتحدة الأمريكية لو أنها كانت هي الصومال مثلا التي تعيش في فقر مُدقِع وبؤس مُرعِب، والتي تتعلل عن دفع واجباتها للأمم المتحدة بكونها لا تملك ميزانية لسبب أنها لا حكومة لها. أما الولايات المتحدة التي تبلغ ديونها حيال المنظمة الأممية الأرقام القياسية التي ذكرناها أعلاه، فلا يمكن أن يوصف عملها إلا بما وصفه به المعلقان الأمريكيان في التعليقين المذكورين قبل.

ولقد كنا نعتقد أن بعض مواقف أعضاء الكونغرس المتشدد حيال الفلسطينيين إنما يمليها عليهم ولاؤهم الكامل اللامشروط لإسرائيل، لكن من حق المحللين أن يتساءلوا عن الدافع الذي جعل الكونغرس يشترط لدفع واجباته المستحَقَّة من المحكمة الدولية الجنائية أن تتعهد المحكمة سلفاً بأن لا تتابع أي جندي أو ضابط أمريكيين بتهمة ارتكاب جرائم الحرب، وأن تبقى قوانين المحكمة سارية فقط على غير رعايا الولايات المتحدة، مما يعني أن هؤلاء فوق القانون، وأن الكونغرس يريد أن يحصل لهم على حصانة دائمة من لدن المجتمع الدولي تسمح لهم بأن يرتكبوا من الجرائم ما يشتهون عندما يوجدون ضمن قوات حفظ السلام دون أن يخشوا عقاب القانون ومتابعة المحكمة الدولية.

وهذا المنطق الغريب يعكس عقلية حكام الولايات المتحدة الذين لا يتورَّعون عن مصادمة المجتمع الدولي بهذه التوجهات المتشددة، ويجعلون من تنفيذها شرطاً لاستمرار أمريكا في قيادة العالم والهيمنة على مقاليده.

وتكمن غرابة هذا المنطق (أو اللامنطق) في معطيين اثنين: أولهما اعتبار رجال الحكم في أمريكا أن العالم راغب في أن يسوده القطب الأعظم والأوحد، وأنه لا يستطيع الاستغناء عن هذه التبعية. وثانيهما أن من حق القطب الأمريكي أن يحصل من المجتمع الدولي على مقابل نقدي لخدماته التي يعطيها للعالم من مركز زعامته العظمى. لذا فهو يقتطع أجره على ذلك مما عليه من واجبات نحو الأمم المتحدة والهيئات المنبثقة عنها، ويفرض شروطاً مُخزية على المنظمة والمحكمة الدولية الجنائية التابعة لها. وهو تحدٍّ للمجتمع الدولي غير معقول ولا مقبول صدوره من القطب الأعظم الأوحد الذي لا يليق به هذا السلوك.

وما نزال نذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية انسحبت من عدد من ميادين حماية الأمن العالمي عبر العالم خوفا على رعاياها من تحمل «أوزار» السلام الذي كان المفروض أن تقود حركته كقطب أعظم. كما نذكر كيف سلَّت الولايات المتحدة خيوطها من عملية السلام في الصومال، وكيف يسلُّ اليوم الرئيس الأمريكي «بوش» خيوطه من شبكة السلام العربي الإسرائيلي لئلا يتورط بصفة أو أخرى في عملية معقدة يمكن أن تضر بسلامة بلاده التي أصبحت المحافظة عليها هي هدف السياسة الأمريكية الأوحد.

إن الأمم المتحدة توجد في وضع مالي خانق، لكن أمينها العام لا يرفع صوته بالاحتجاج لأنه يعلم أن الأمم المتحدة عاجزة عن تحدي الولايات المتحدة بمجابهتها بحقائقها، لذا اكتفى أحد أعوانه بهذا التصريح الخجول الذي لم يعلن فيه عن هويته: «إننا لا نريد الضغط على الرئيس «بوش» لأننا نعلم أنه يبذل جَهدا مشكوراً لدى الكونغرس ليقنعه بالتراجع عن شروطه».

ويبقى السؤال: فيما إذا لم تسدد الولايات المتحدة الأمريكية ديونها هل ستسمح الأمانة العامة للمنظمة الأممية للرئيس «بوش» أن يلقي خطابه ـ كالعادة ـ في مفتتح الدورة القادمة خلال شهر شتنبر الموالي؟ أم سينصحه بالعدول عن ذلك حتى لا يطبَّق عليه القانون الأممي القاضي بحرمان الدولة التي لا تؤدي ديونها من تداول الكلمة في جلسة افتتاح الدورة ومن حقها في التصويت على القرارات.

إن هذا هو رابع المستحيلات.