جورج بوش: يلهج بذكر ثاتشر وريغان ويتبع منهج لينين

TT

تبدو الادارة الأميركية الجديدة، تحت رئاسة جورج بوش، وكأنها غير واثقة من فوزها بفترة ثانية. ولذلك فهي في عجلة من أمرها لخلق أكبر عدد ممكن «من الحقائق على الأرض» قبل أن تغادر مواقعها عام 2004.

على المستوى المحلي استطاعت الادارة أن تفرض أجندتها في مجال الخفض الضريبي، وذلك بالرغم من أن فوائض الميزانية الضخمة التي تنبأت بها الاستقراءات الاقتصادية في العام الأخير لإدارة كلنتون، تلاشت بنفس السرعة التي تتلاشى بها قطعة سكر بين فكين شرسين! ولكن الأمر الهام هو أن برنامج الخفض الضريبي سيستمر وستنفذ كل مراحله خلال العقد المقبل بصرف النظر عمن يشغل البيت الأبيض بعد أربع سنوات من الآن.

تمثل البند الآخر بالنسبة لادارة بوش الجديدة، في التطبيق السريع لبرنامج «الدرع الصاروخي». وواضح هنا ايضاً ان هذا النظام لن يعمل بأية صورة ذات معنى خلال العشر سنوات المقبلة، ومع ذلك فإن الادارة تبذل قصارى جهدها لنصب شكل ما من أشكال الدرع قبل نهاية دورة بوش الحالية. والفكرة هنا ايضاً هي منع أية ادارة قادمة من الغاء برنامج صرفت عليه أموال هائلة، من الخزينة العامة.

يرتبط بالدرع الصاروخي اصرار الادارة على التخلص من اتفاقية منع انتشار الصواريخ البالستية لعام 1972. وبمجرد زوال هذه الاتفاقية أو تعديلها بصورة جوهرية فإن تحولات كبيرة ستطرأ على كل البنيات الدفاعية العالمية. ولن تستطيع أية ادارة قادمة ان تعيد عقارب الساعة الى الوراء.

منطقة اخرى تريد ادارة بوش أن تضع فيها حقائق على الأرض يصعب تغييرها، تتعلق بامدادات الطاقة لتلبية الحاجات الأميركية.

فالادارة الجديدة تسعى الى تخفيض اعتماد الولايات المتحدة على الامدادات النفطية من خارج نصف الكرة الغربي بنسبة 50% في ظرف عشر سنوات فقط، وجزء من هذه الامدادات البديلة ستتم تغطيته من خلال زيادة الانتاج المحلي، بينما يجيء الجزء الآخر من بلدان مثل كندا، والمكسيك وغيرهما من الدول اللاتينية.

ونشهد مظهراً آخر من مظاهر الاندفاع، ولو على مستوى محدود، في مجالي ابحاث الخلايا الجذعية والاستنساخ البشري. فقد انطلقت للتو عملية يصعب ايقافها أو ابطاؤها اذا اقتضت الاعتبارات العلمية والاخلاقية ذلك في المستقبل.

تحاول الادارة كذلك ان تخلق حقائق على الأرض في مجال الاستراتيجية العسكرية العالمية للولايات المتحدة. وتفترض العقيدة العسكرية الجديدة في واشنطن ان مركز النزاعات انتقل من أوروبا الى اسيا، مع ظهور الصين كقوة منافسة للولايات المتحدة في المستقبل، أو حتى كقوة تشيع عدم الاستقرار في كل المنطقة الممتدة من حافة المحيط الهادئ وحتى بحر قزوين. وفي سعيها لتحجيم الصين وخوفاً من ان تصير رجلها اكبر من حذائها، تحاول الادارة اقامة حلف ثلاثي من اليابان واستراليا والهند، يهيمن على تلك المنطقة ولا تملك اليابان خياراً آخر غير التزام الجانب الأميركي على مدى المستقبل المنظور.

أما استراليا، والتي برزت كحليف رئيسي وكلاعب هام في اطار الاستراتيجية الاميركية الجديدة، فقد كانت مصممة دائماً على أن تصبح «قوة اقليمية عظمى».

وتعتبر الهند ضيفاً جديداً على الاستراتيجية الأميركية. ويقول الرئيس بوش ان الهند حليف طبيعي لأميركا لعدة اسباب. فهي بلد ديمقراطي في منطقة النظم الديمقراطية فيها نادرة. وتقوم الحكومة الهندية الحالية، وهي تتكون من تحالف من الاحزاب اليمينية، بتفكيك البنية الاشتراكية للاقتصاد الهندي، في محاولة منها لادغام الهند في تيار العولمة الاقتصادية الذي تقوده الولايات المتحدة. كما ان الهند، وقد بلغ عدد سكانها بليوناً، هي البلد الوحيد القادر ديمغرافياً على تطوير قوة موازنة للقوة الصينية. واخيراً وليس آخراً، الهند بلد نووي، وربما يكون حجم مخزونها النووي كبيراً، بحيث يجعل الأمور شائكة تماماً أمام الاستراتيجيين الصينيين.

يترافق كل ذلك مع تغيرات درامية في وضع الباكستان. فأثناء الثمانينات كانت الباكستان حليفة هامة لاميركا وكانت دولة مواجهة في استراتيجيات الحرب الباردة. ولكن الباكستان تعتبر حالياً بلداً معزولاً، متضائل الأهمية، ومجتمعاً يعاني من أزمة هوية مستفحلة، ومهدداً بنظام سياسي اصولي على الطراز الطالباني.

كما ان الارتباط الباكستاني التقليدي مع الصين، والذي كان ينظر اليه كشيء ايجابي على أيام الحرب الباردة بسبب التناقضات القائمة وقتها بين الصين والاتحاد السوفيتي، يعتبر الآن نقطة ضد باكستان وخصماً عليها من قبل واشنطن.

وتسود في واشنطن افكار تقول إن «تغيرات الخريطة» التي حدثت في أوروبا خلال العقد المنصرم يمكن ان تتكرر في آسيا.

الصين يمكن ان تنشطر الى 5 دول كما تفتت الاتحاد السوفيتي الى 15 جمهورية مستقلة. ويمكن ان تبرز جمهوريات مستقلة بالتبت وجنجيان ومنغوليا ومنشوريا، مما يحول ما تبقى من الصين الى جمهورية خالصة للقومية الهانية، تولي ظهرها لبقية اسيا وتركز على الطرف الاقصى للمحيط الهادئ. ويمكن ان يتوحد شطرا كوريا ليكونا قوة متوسطة الحجم متحالفة مع الولايات المتحدة. ويمكن ان تمتد اثار التقسيمات العرقية الخاطئة لتطال بلداناً مثل الباكستان، افغانستان، ايران والجمهوريات الجديدة في آسيا الوسطى والقوقاز.

وربما يكون واضحاً أن سياسات الولايات المتحدة يمكن ان تسرع هذه التيارات أو تبطئها. الأمر الهام هو أن هذه القضايا الخطيرة لا تحظى بالبحث المتأني في واشنطن، وذلك حتى على مستوى «مراكز البحث» ولجان الكونجرس المتخصصة.

في اطار هذه الاستراتيجية الجديدة، يعتبر الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، مناطق تقل اهميتها باطراد. ونحن نصادف لأول مرة منذ 1956 ادارة اميركية تفضل دور المتفرج وهي ترى الصراع العربي ـ الاسرائيلي يزداد تعقيداً كل يوم، ويرجع ذلك، جزئياً على الأقل، الى ان بوش حاول ان يفعل عكس ما فعله كلنتون بالضبط، فكلنتون قضى مع عرفات زمناً اطول مما قضاه مع أي قائد عالمي آخر. ولكن بوش يرفض اللقاء بعرفات، سخر كلنتون حوالي ثلث الزمن الذي قضاه في معالجة قضايا السياسة الخارجية لقضايا الشرق الأوسط. يركز بوش على الشرق الاقصى واميركا اللاتينية. أما بالنسبة لايران فقد جدد العقوبات لمدة خمس سنوات اخرى، ولا يرغب في الاستماع لأية مبادرات لتطوير الحوار.

وهكذا فإن ادارة بوش تخرج في جملة من القضايا، على التقاليد المرعية للسياسة الخارجية الأميركية، حيث لا يقدم الرؤساء على تنفيذ أية سياسات لا يمكن تعديلها بسهولة أو حتى الغاؤها بواسطة من يأتون بعدهم.

ومع ان هذه تعتبر سياسة محافظة وحذرة، الا ان بعض منفذيها يشعرون بالفخر وهم يصفون سياساتهم بأنها ثورية. وهم يقولون إنهم يريدون ان يكونوا (راديكاليين) على غرار مارغريت ثاتشر ورونالد ريغان. ولكن الراديكالية من أجل الراديكالية كثيراً ما تكون سياسة سيئة. وقد طبقت تاتشر وطبق ريغان سياساتهما وهما يحظيان بسند شعبي واسع، وفازا في الانتخابات العامة فوزاً كاسحاً شمل الأمة كلها.

إن بوش وفريقه طبقوا من دون وعي منهم المنهج اللينيني، ولأن لينين استولى على السلطة بسهولة شديدة عام 1917 عن طريق الانقلاب، فإنه لم يكن واثقاً أن نظامه يمكن ان يصمد حتى ولو لعام واحد. ولذلك كان يقول لرفاقه في جولاته الكثيرة، ان عليهم أن يحتفظوا بالسلطة لمدة 101 يوم على الأقل، حتى يكون نظامهم قد تفوق بيوم واحد فقط على السلطة الشيوعية الوحيدة التي اقيمت في أحد احياء باريس عام 1870، وعندما وجدت حكومة لينين نفسها محاصرة بمقتضيات التصرف السريع، أعلنت سياساتها وكشفت برامجها وفرضت قوانينها واجراءاتها في كل المجالات وحول كل الأشياء من دون ان تعبأ بصياغة استراتيجية شاملة. مرّ 101 يوماً، ولم تسقط السلطة. وقد استغرق لينين 4 سنوات ليفيق على الخراب والدمار اللذين سببتهما سياساته المندفعة من دون حساب، ومن اجل اصلاح ما خربته سرعته الخرقاء دشن ما عرف «بالسياسة الاقتصادية الجديدة»، والتي ثبت انها أقل من المطلوب وانها متأخرة اكثر مما يجب.

ويقول بعض المؤرخين ان ذلك الاندفاع المجنون الذي حدث في الأيام الأولى هو الذي بذر بذور الانهيار النهائي للتجربة السوفيتية.

ان على جورج بوش ان يأخذ نفساً عميقاً، وأن يهدئ من الاندفاعات الثورية لمساعديه، وليس ثمة سبب يمنعه من تأمين دورة اخرى. فأجزاء كثيرة من برنامجه جذابة ومنسجمة، وجديرة باغراء كثير من الأصوات الحائرة بالتصويت له عام 2004. ان جمال النزعة المحافظة هو أنها تستهجن التسرع، وتفكر مرتين قبل ان تتكلم مرة واحدة; ونادراً ما تقدم على شيء لا يمكن الغاؤه ومراجعته.