سنوات في مصر 19: أعضاء مجلس قيادة ثورة 23 يوليو من الداخل! من هم؟ وما لهم؟ وما عليهم؟

TT

يبقى من واجب الصحفي العربي ان يعرف كل الناس في بعض الوقت، وبعض الناس في كل مصر. واذا كان هؤلاء الناس من الذين بيدهم مقاليد الامور او مفاتيح السياسة، او الذين يصنعون الاحداث، فإن من واجب الصحفي ان لا يكتفي بأن يعرفهم، او ان يتعرف عليهم، بل ان عليه ان يسلك السبل التي قد تكسبه بعض ثقتهم، وتفتح امامه بعض ابوابهم، وتسمعه بعض اسرارهم، وتصبح العلاقة بينهما لا بين حاكم ومواطن فحسب، بل بين صديقين يتبادلان الشعور بالاخلاص للبلد، والافتخار بالمهنة، والزهو بمحبة الناس، والقدرة على العطاء المستمر! وكان همي، بل اول همومي، وقد اتخذت من مصر وطنا ثانيا، لي ولعائلتي الصغيرة، ان ابدأ بقراءة الصفحة الاولى من كتاب «من هو» ـ بالانجليزية Who is Who ـ في مصر، تماما كما يفعل الناس في امريكا واوروبا، حيث لا يبقى الكاتب الصحفي في غفلة عن حقيقة الشخصيات التي يراها، او يسمع عنها، او يكتب عن اعمالها، او يحبها مكرها، او يكرهها متطوعا.

ويشهد الله انني لم احب احداً من رجال «ثورة مصر»، ولم اكره احداً. ولم اكن حيادياً بعاطفتي بقدر ما كنت غير عاطفي بعقلي وإرادتي.

وكان الحب والكراهية اشبه بالديكور المهفهف الثري الذي لا يقدر عليه او على ممارسته الانسان الذي يكتب ليعيش او يعيش ليكتب.

وكنا نحب ونكره ايام وجودنا في فلسطين، وسط اهلنا وامام زعمائنا وحول قضايانا وعند شواطئ بحرنا او فوق رؤوس جبالنا. كانت نبضات قلوبنا واجباً مفروضاً علينا لا نقدر ان نتمرد عليه او عليها. وكان ذلك الحب جزءا من حبنا للتراب والشجر والنهر وبيارة البرتقال وكرم الزيتون.

وكان الحب يتسلل بقوة الينا من الداخل.. ولم يقدر احد ان يفرضه علينا من الخارج. وكان في حقيقته حبا حقيقيا، لا تمثيل فيه ولا ضرورة له تجعلنا نمثل الحب او نصطنعه، او نتظاهر به.. او نتغنى به لهوا وعبثا.

من هنا، لم يكن من السهل علينا ان ننعم بطعم الحب من مياه «النهر الخالد» الذي منحنا العطف، والمسكن، والحياة المستقرة الشريفة رغم انوفنا او في حياة قصيرة كلنا نعرف متى بدأت، وكلنا لم نكن نعرف متى تنتهي..

ولعل الانهاك في مواجهة مسؤوليات العمل الصحفي ما شغلنا عن الالتفات الى اي شيء سواه. نعم! كلنا احببنا الثورة! وكلنا كنا نؤيدها! وكلنا دفعنا وما زلنا ندفع الثمن كاملا مقابل ذلك الموقف من حب لها او عداء لاعدائها. ولكن الثورة كوحدة سياسية عسكرية شيء، بينما الرجال الثوار من حولها شيء آخر. وليس من الضروري ان يتطور كل من يحب الثورة، الى عاشق لقادتها.. او ثوارها.

وكنت اعرف المئات من رجال العلم، والفن، والادب في مصر ـ وفي القاهرة بالذات، وفي الدار الصحفية التي كنت احد المسؤولين فيها بصورة ادق ـ من يحبون ثورة 23 يوليو، ويتغنون بها، لكنهم بقوا بعيدين عن حب اي فرد من اعضاء قيادة الثورة، بمن فيهم محمد نجيب، او علي صبري، او البغدادي، او انور السادات.. او خالد محيي الدين! وقد اظلم نفسي واظلم الحقيقة معي لو اني زعمت ـ الآن ـ بأنني لم اكن واحدا مثل هؤلاء الناس! نعم! احب الثورة وادافع عنها، واعادي اعداءها، واتنطح لكميل شمعون، وعبد الكريم قاسم، واكرم الحوراني ويجردني الملك حسين من جنسيتي وجواز سفري ويمنع دخولي من القدس، ويتآمر البعض حياتي، ورغم كل ذلك، ابقى في عاطفتي الداخلية الخاصة بعيدا عن الاعجاب باللواء محمد نجيب، او الطيار جمال سالم! وطالما سألت نفسي بكل حدة ودهشة:

ـ ترى هل هذا يتفق مع المنطق او العقل في شيء! يعني: هل من المنطق او العقل في شيء ان تدافع عن شخص ما وتحميه، وتعرض نفسك للاغتيال بسببه، وانت لا تحبه، ولا يدخل قلبك اسمه، او خياله.. او شخصيته؟

واجيب: نعم! ثم اضيف: «ولكن ذلك لا يعني مطلقا ان اتخلى عن ابداء الرأي الحيادي فيه، او ان اتجاهل وجوده، واعماله، ومزايا شخصيته! انا مجرد «رسام» بالقلم، اقوم بواجبي في رسم «اللوحات» ـ من دون النظر الى اصحابها ـ ومن دون الضعف العاطفي امام واحد منها ـ بل من دون النفور او الزهق او التعب او الكراهية».

من هنا، كنت معجبا بشخصية زكريا محيي الدين، او الثائر الذي تولى مهام المخابرات العامة في اول سنوات الثورة فأبدى كفاءة وحزماً وادارة ما زالت مصدر فخر، له، وللثورة كلها! وكان عبد الناصر لا يخفي اعجابه بزكريا محيي الدين. وعندما جاء الرئيس الجزائري هواري بومدين يزور القاهرة بعيد النكسة التي الحقت الهزيمة بمصر والعرب، واعلن عبد الناصر قرار تنحيه مع تعيين زكريا محيي الدين في مكانه، سأله بومدين ـ يعني سأل الرئيس عبد الناصر ـ عن سر اختياره زكريا بالذات، ولماذا لم يختر البغدادي، او علي صبري مثلا؟ فاجاب عبد الناصر على الفور: ..زكريا رجل دولة. ثم قالها بالانجليزية He is a statesman!. وقد اضيف الى كلام عبد الناصر بعض ما كنت اعرفه عن زكريا محيي الدين خلال وجودي في مصر! اذ عندما نعلم انه لم يبق احد من رجالات «الثورة» لم يكتب مؤلفا او يضع كتابا كاملا عن جمال عبد الناصر، باستثناء زكريا محيي الدين رغم انه اعلم الناس واقربهم الى عبد الناصر! اقول، عندما نرى زكريا يعفّ عن الكتابة ـ مدحا او ذما ـ واختلاق البطولات، وسرد القصص الخيالية، ندرك عندئذ ان زكريا محيي الدين ..رجل ليس كباقي الرجال. بل هو على خلق عظيم! يومذاك، اعني بعد قليل من يوم التنحي، استطرد عبد الناصر يشرح للضيف الجزائري هواري بومدين جانبا من مميزات شخصية زكريا محيي الدين قائلا: «ان قراري في اختياره يرجع الى اعتقادي بأنه ـ اي زكريا ـ سيكون موضع «المنافسة» بين دول الشرق والغرب على كسبه والتعاون معه. فهو معروف بأنه غربي الاتجاه، ومحسوب على امريكا، رغم كونه ليس محسوبا على احد، ولكن اختياره سيرضي الامريكان ويجعلهم يتسابقون للاحتفاظ به وبصداقته! اما السوفييت فانهم سيحاولون زيادة المساعدات الحربية والمالية لمصر مع زيادة التقرب الينا املا في ان يتحول زكريا من الطرف الغربي ـ او الامريكي ـ الى الجانب الشرقي او السوفييتي..!».

اضيف الى ذلك ان زكريا محيي الدين يتمتع بالكثير من الثقافة السياسية والعسكرية. وانه يقرأ كثيرا، وانه قوي الاعصاب هادئ النفس يتحاشى المعارك وينفر منها. ولعله الوحيد الذي لم يختلف مع عبد الناصر طيلة حياته الا مرة واحدة ابان عمله كرئيس للوزراء، وفي فترة معينة وقصيرة اختلف فيها بتقديراته ودراسته مع تقديرات عبد الناصر في بعض المسائل «الاقتصادية» فبادر الى تقديم استقالته.. ثم عدل عنها.

*** ولا ادري ما الذي سيقوله التاريخ عن انور السادات. انا عرفته جيدا وزاملته كثيرا واهديته العديد من ربطات العنق التي كنت استوردها من اقاربي في بيروت، ولكن السادات بقي مرسوما في ذهني بشكل غير ودي وغير ايجابي، منذ ان نشرت صحيفة «الهيرالد تريبيون» الامريكية، قبل اكتوبر من عام 1963 تقريرا صحفيا مفصلا روت فيه ما دار من مناقشات في الكونجرس الامريكي خلال مناقشة الميزانية الخاصة بوكالة المخابرات الامريكية، وعندما حاول رئيس الوكالة، اي رئيس المخابرات ان يثبت لاعضاء الكونجرس ان الوكالة قد نجحت في جهودها بغية «تجنيد» المسؤولين العرب الكبار لخدمتها، قال «نحن قدمنا خدمات مستمرة لانور السادات مقابل تقديم خدمات جليلة للدولة.. «الامريكية»! وقالت الصحيفة الامريكية بالحرف الواحد وبالانجليزية عن انور السادات: We cultivated him carefully! يعني باللغة العربية او بالكلام الفصيح: «نحن ربيناه.. بكل دقة او بكل عناية!». واضاف رئيس المخابرات الامريكية قائلا: «نحن قدمنا رواتب مالية مستمرة لأنور السادات منذ ان كان رئيسا لمجلس الشعب المصري!».

ولا شك في ان السادات كان انسانا معقدا من صفحات ماضية على المستوى الشخصي، وعلى المستوى العام.

ورأيناه وهو ينقلب على جميع اصدقائه القدامى ويضعهم في السجون ويحاكمهم بأفدح التهم واخطرها! ورأيناه وهو يكره ان يأتي معه، او امامه احد على ذكر الايام الماضية ابان حقبة مجلس قيادة الثورة..

وعندما القي القبض على جميع افراد المستشارين والمساعدين البارزين في مكتب جمال عبد الناصر، بأمر انور السادات، وقال المحقق العسكري لأحدهم ـ ولعله كان السيد عبد المجيد فريد، احد مساعدي الرئيس: انت متهم يا عبد المجيد، بالخيانة «العظمى».. رفع عبد المجيد فريد رأسه وسأل المحقق هامساً وكأنه يسمع منه نكتة سمجة:

ـ انت بتقول خيانة.. ايه؟.. خيانة لمين؟

واجاب المحقق: خيانة عظمى..! عظمى يا عبد المجيد! وابتسم عبد المجيد فريد، الذي امضى سنوات عمره في ادق واخطر منصب عند جمال عبد الناصر، ثم جاء انور السادات يتهمه اليوم بالخيانة العظمى، والتزم الصمت! وكان صمته اقوى من اي دفاع. ودخل السجن. وقضى السنوات المحكوم بها عليه، وبقي السادات رئيسا يحاول ان يدفن ماضيه ويدفن ايضا شهود ذلك الماضي. الى ان لقي مصرعه، ورحل.. وبقي الماضي يؤرق اصحابه، وبقي الشهود على قيد الحياة..

ولا شك، ان السادات كان مثالا حيا لما كان يحلم به جميع قادة اسرائيل من تنازلات وانهيارات في الجانب العربي. وفوق هذا فقد نجح السادات في تسخيف وتهميش وتصغير الصراع العربي ـ الاسرائيلي، بكل اعماقه وكل جبروته الى سلسلة ممجوجة من النكات والعبارات «وعزيزي هنري.. وعزيزي مناحيم..»! وقد عرفته وزاملته وزرته وحادثته، ولم احبه. وما زال التاريخ لم يقل كلمته الختامية فيه. وما زال حسابه عند ربه.. حسابا عسيرا! وكان انور السادات يكره هيكل. وذات يوم وبينما كان عبد الناصر يحدث هيكل في بعض الامور في مكتبه بمنشية البكري بالقاهرة، وصل الى المنزل انور السادات. ودخل احد الموظفين المساعدين ينقل الخبر للرئيس عبد الناصر، وطلب عبد الناصر من المساعد ان يسأل السادات عن سبب الزيارة.

وعاد الموظف لكي يقول للرئيس ان انور السادات قد جاء لكي يشكر عبد الناصر على تفضله بالسؤال عنه ابان مرضه الاخير.. بالقلب. وصاح عبد الناصر ضاحكا: «مين قال ان السادات كان مريضا بالقلب؟ وكيف يصاب انسان مثل السادات بالقلب وهو لا يشعر، ولا يحس، ولا يغضب، ولا ينفعل، ولا يهتم؟!» ثم قال عبد الناصر لموظف الرئاسة ان يشكر السادات على زيارته وان الرئيس يشكره ايضا.. على شكره.. وعلى عواطفه..

*** ترى، هل كان علي صبري، النائب «الآخر» للرئيس عبد الناصر في مستوى انور السادات؟!.

انا اؤكد ان طراز معيشة علي صبري لم تكن تتفق مع «سمعة» علي صبري حول ميوله الاشتراكية وصداقته مع موسكو؟! فالمعروف لنا ـ على الاقل ـ ان علي صبري هو ابن اخت علي باشا الشمسي، احد اغنى باشوات مصر واعرقهم نسبا وحسبا.. وثروة. وانه كان يمارس حياة ارستقراطية مثيرة ومرفهة، رغم سائر ارتباطاته الوثيقة مع جمال عبد الناصر ورغم ايمانه الشديد بمبادئ الثورة واخلاصه المطلق لرئيسها.

وكان علي صبري يؤمن بأن الاشتراكية هي الطريق الوحيد امام الدول النامية، شريطة ان يأتي التطبيق على الطرق والوسائل «الشرقية» او العربية التي تختلف قليلا عن الوسائل والطرق في بقية انحاء العالم؟! ولم يفسر ولم يشرح..

ولا شك مطلقا في صلابة الرجل، وفي ابائه وتمسكه بكرامته. فقد دخل السجن، بأمر من انور السادات وقضى فيه عشر سنوات كاملة كانت كافية لتحطيم الجبال.. لكنها لم تفت في عزيمة علي صبري ولم تضعف من ارادته.

وبقي علي صبري يحب ثورة 23 يوليو، ويحترم ذكرى زعيمها عبد الناصر، ويكره محمد حسنين هيكل الى حدود العظم.. والوريد ودقات القلب...وقد استطاع الكاتب عبد الهادي ناصف ان يسلينا وملايين القراء معنا، بالفريد والعديد من القصص والروايات عن هيكل وخلافه مع السيد علي صبري.. وان يدافع عن صديقه علي صبري دفاع الابطال.. وان يعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله.. لله! وكل ذلك على صفحات جريدة «الجمهورية» لسان حال الثورة، في مصر!.

وقد تحمل عبد الناصر، من جراء صداقته مع هيكل الكثير من العناء. وعندما وصلت الامور الى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وانبرى احد الاعضاء يسأل عبد الناصر لماذا يخص صحفيا واحدا اسمه هيكل بالاخبار، والرعاية، ويمنعها عن غيره من رجال الصحافة، اجاب عبد الناصر: « ..هيكل بيوقظني صباح كل يوم لكي يقرأ لي آخر اخبار العالم، مع الكثير من الشرح والتعليقات، مع الكثير، الاكثر، من رسائل «الاهرام» الصحافية والخاصة التي يرسلها رجال الجريدة في مختلف انحاء العالم الى هيكل. وكان عبد الناصر من خلال رعايته لهيكل، يحاول ان يرد له جميل خدماته، وان يزوده بالكثير من التقارير السرية والرسمية التي لا تصل اليها يد اي صحفي سوى هيكل.! قال لي ذات يوم عبد المجيد فريد، وكان يومذاك الامين العام لرئاسة الجمهورية في مصر، ونحن نتمشى في اروقة نادي الجزيرة الرياضي بالقاهرة: «لقد طلب مني الرئيس عبد الناصر ـ هذا اليوم ـ ان ابعث الى هيكل بنسخ كاملة عن مباحثاته ـ اي مباحثات عبد الناصر مع رجالات سوريا خلال مشاريع الوحدة ـ القادمة».

واضاف عبد المجيد فريد:

ـ وهي مباحثات سرية مائة في المائة!.

وكان ذلك في عام 1959.

وبقي هيكل ينعم بهذا العطف «الناصري» الى يوم وفاة عبد الناصر ورحيله الى الدنيا الباقية. وانتقم السادات من عبد المجيد فريد، وادخله السجن لمدة 42 شهرا، بينما لم تتعد ايام هيكل في السجن، ثلاثة شهور.. فقط.

وفي السجن اصيب عبد المجيد فريد، بالمرض، ونقلوه الى القصر العيني للعلاج. وفي احدى غرف القصر العيني التقى عبد المجيد فريد، بصديقه القديم الصحفي مصطفى امين، الذي كان سجينا من ايام عبد الناصر، ولم يصدر امر الافراج عنه بعد.

قال لي عبد المجيد فريد وهو يتذكر لقاءه مع مصطفى امين:

«وعندما التقينا في القصر العيني، وكان الموقف لا يخلو من دقة وحساسية وعنف، حيث كنت انا مستشارا للرئيس عبد الناصر، الذي دخل مصطفى امين على ايامه السجن، لولا ان مصطفى امين قال لي ضاحكا وكأنه يكسر الثلج بيني وبينه: «النهارده يا عبد المجيد في العالم هناك طاولتان فقط لكي يجلس عليها قادة الدول. احدى الطاولتين كبيرة ويجلس عليها رئيس امريكا ورئيس السوفييت ورئيس الصين، بينما الثانية صغيرة ويجلس عليها رؤساء فرنسا وانجلترا واليابان». وعندما سأل السجين عبد المجيد زميله السجين القديم مصطفى امين، وعلى اية طاولة يجلس العرب، اجاب مصطفى امين على الفور: «العرب يجلسون «تحت» احدى الطاولات»..

وتعالت القهقهات والنكات على مسمع من بقية المساجين.

*** بقي ان اقول بأن الايام الماضية ربطتني بصداقة الرجل الشهم كمال الدين رفعت، احد الضباط الاحرار، ومسؤول «المخابرات العربية» في رئاسة الجمهورية قبل ان يصبح سفيرا لمصر في بريطانيا.

وكان كمال رفعت رجلا وفياً وجرىئاً وصريحاً ووطنياً ...

وكان يحب بلدي ـ فلسطين ـ ويحب اهلها.. ويفهم اسرار القضية...

وكان لا يحني رأسه لأحد، ورفض ان يستقبل الوزراء الكبار ـ ابان عمله كسفير في بريطانيا ـ لدى وصولهم الى مطار هيثرو في لندن.

وعندما انتحر «المشير» او نحروه.. طار كمال رفعت بدافع الوفاء، الى مصر، وسافر الى قرية المشير وحضر الجنازة.

لكنه لم يتحمل الكثير من ضربات القدر، فمات في عز الشباب.

ومن يقرأ مذكراته عن ايام الثورة وايام الانتفاضة، ضد الانجليز في منطقة القنال، يتعلم منها كل الدروس الصادقة والبليغة والناطقة في التضحية والتنظيم، والفداء.. والنصر!.. وقد ظهرت كلها في كتاب واحد يحمل اسم «مذكرات كمال رفعت ـ حرب التحرير الوطنية بين الغاء معاهدة 1936 والغاء اتفاقية 1954». وقد اهداني كمال رفعت هذه المذكرات فبقيت في مكتبي شبه نبراس يضيء لي ولافراد شعبي طريق العودة الى فلسطين.

وقد سمعت الكثيرين من زعماء العرب وقادتهم وهم يقولون لي في دمشق وبغداد وبيروت وعمان:

ـ نحن عرفنا وجه ثورة 23 يوليو، من خلال كمال رفعت! تماما.. تماما.. كما تيسر لي ان ازور الجزائر برفقة جمال عبد الناصر في عام 1963 وان اتنقل بين العاصمة وتلمسان.. وقسنطينة، وان اسمع الناس يسألونني هناك عن الممثل الكبير يوسف وهبي.. او «يوسف بيه» كما كانوا يسمونه. وعندما سألتهم عما يهمهم من يوسف وهبي، كانوا يقولون لي: «نحن في الجزائر تعلمنا حقائق ثورة مصر وعروبة مصر واوضاع العرب، واللغة، والعادات من روايات يوسف بيه.. وهبي!» ثم اضافوا: «كان «يوسف بيه» يأتي الى الجزائر قبل استقلال البلاد ويقدم لنا على المسارح المختلفة الروايات العربية المثيرة عن الحب، والرجال، والتاريخ، والشرف.. والتقاليد».

وصرخ احدهم قائلا وهو يردد عبارة يوسف وهبي المشهورة: نعم! نعم! شرف المرأة زي عود الكبريت لا يولع الا مرة واحدة»! وهكذا علمتني الجزائر ان اول دعاة العروبة فيها لم يكن سوى الممثل الاشهر يوسف «بيه» وهبي.. وفرقته المسرحية المكونة من جورج ابيض، وامينة رزق، وزوزو شكيب.. واختها ميمي وغيرهم.

*** وبقي ان اتحدث عن صلاح سالم.. ذكاء الثورة وشبابها وجرأتها واندفاعها..وعن الدقيقة التي تبكي الحجر والتي جاء فيها جمال عبد الناصر لكي يزور صديقه صلاح سالم وهو يعالج سكرات الموت في مستشفى الطيران بالعباسية، وكنت يومذاك قد جئت الى المستشفى لكي ازور زميلي وصديقي صلاح، او لكي اودعه.. الوداع الاخير.

في تلك اللحظة ـ ولا ادري كيف، او لماذا ـ وبينما عبد الناصر يلمس بيده جبين المريض صلاح سالم الذي اغمض عينيه واستسلم للقدر الالهي، عادت بي الذكريات الى صيف عام 1954 عندما ذهبت مع صلاح سالم الى دار الاذاعة المصرية لكي يتحدث ـ او يدافع ـ عن اتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا المنعقدة في يوليو عام 1954. يومذاك خرج صلاح سالم من استوديو الاذاعة متألماً ومتجهم الوجه لكي يقول لي انه لم يستطع ان يدافع عن المادة الثالثة من اتفاقية الجلاء والتي تنص حرفيا على ابقاء أجزاء من القاعدة العسكرية البريطانية في السويس في حالة صالحة للاستعمال في حال وقوع هجوم مسلح من دولة في الخارج ـ يعني السوفييت ـ على اي بلد يكون طرفا في معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة ـ او على تركيا ـ عندئذ تقدم مصر من التسهيلات ما تراه «لازما» عليها لتهيئة القاعدة للحرب وادارتها ويجري التشاور فورا بين مصر وبريطانيا.

هذه المادة اتلفت افكار صلاح سالم، واثارت الكثير من احزانه وآلامه واصابته في صميم قلبه وهو يقول لي ونحن عائدان الى دار جريدة «الجمهورية» في ذلك المساء: «احنا ما لنا ومال تركيا؟ ولماذا يعود الاحتلال البريطاني لارض مصر ـ في السويس ـ دفاعا عن تركيا او غيرها؟ وكيف لي ان افسر للناس عجزي في الدفاع عن تلك المادة «المشؤومة» او تفسيرها بما يرضي الكرامة المصرية؟

لا.. لا! ومسح صلاح سالم حبات العرق المتصببة من وجهه وقال لي وقد وصلنا الى مكاتبنا في «دار الجمهورية»: «على العموم.. لا اظن ان الرئيس جمال قد تسنى له ان يسمع حديثي منذ دقائق في الاذاعة.. لأنه الآن.. حسب البرنامج الرسمي، يرافق احد الضيوف السودانيين الكبار في رحلة نيلية على مركب رسمي .. حكومي!.» ثم قال ضاحكا: «من يدري؟ قد يأتي امامنا ظرف في المستقبل نقدر معه ان نلغي هذه المعاهدة، وننسفها من اساسها».

وتشاء الظروف، ان يقع العدوان الثلاثي على مصر، بعد عامين فقط، وان تعلن مصر الغاء معاهدة الجلاء مع بريطانيا وان تنسفها من اساسها..! وختاما، بقي ان اتحدث ـ ولو باختصار شديد ـ عن قصة الخلاف بين الرئيس عبد الناصر، ووزير الاعلام والارشاد الصاغ صلاح سالم. ولم تكن قضية السودان مسؤولة عن ذلك الخلاف.. كما يشاع! ولم تكن قضية «حلف بغداد» او مباحثات سرسنك هي محور الخلاف كما قيل ..

كان الخلاف يدور حول حرص صلاح سالم على ان يؤدي دوره كاملا في ميدان الصحافة والاعلام بوصفه وزيرا للاعلام في مصر من دون ان ينافسه او يشاركه احد. وكان «غيره» قد بدأ يؤدي ذلك الدور ويحرص على ان لا ينافسه فيه احد.

وانتصر عليه «غيره» عندما نصره جمال عبد الناصر.

وانزوى صلاح سالم، ومرض، ومرض ابنه معه، وسافر الى امريكا للعلاج وتنقل بين المناصب و.. مات! وحتى خصوم صلاح سالم، ليس همي الآن سوى ان لا اذكرهم، الا بالخير! ما علينا..

* * * وبقي علي ان اتحدث عن عبد اللطيف البغدادي.. مهندس كورنيش النيل البارز ونائب عبد الناصر المؤقت.. ورفيق عبد الناصر الى عالم «الشام» في رحلة «الوحدة» التاريخية الى سوريا.. ورئيس الكثير من محاكمات الثورة وبطل التأميمات والصعوبات.

ولكن.. ما زلت اتساءل بكل حزن وضيق حتى هذا اليوم:

ـ وماذا بقي من ثورة 23 يوليو..؟

واضيف:

ـ وماذا بقي من «ثوار» 23 يوليو؟ او «رجال» ثورة 23 يوليو؟ واضيف:

ـ وماذا بقي من النهج الناصري، ومبادئ جمال عبد الناصر.؟! ورغم انفي اراني التزم الصمت.. والسكوت.. ولا اكتب حرفا ولا انبس ببنت شفة..! اذ يغني عدم الكلام، عن الكلام، وتغني عدم الكتابة ـ احيانا ـ عن الكتابة! =