.. ومشروعية (الدعاء) على (الظالمين) من كل جنس ودين

TT

في نازلة احتلال النظام العراقي للكويت - بقيادة صدام حسين -: كنا نصطف خلف الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - وهو يقنت ويدعو على هؤلاء الطغاة المعتدين - ونحن نؤمّن على دعائه -. ولم تصدر فتوى بتكفير صدام وزمرته، ولذا كان الدعاء عليهم بسبب ظلمهم وعدوانهم وهم مسلمون«!!!».. من هنا يتوكد أن الدعاء مشروع على الظالمين المعتدين من الناس: مهما كان دينهم وجنسهم.. ولقد جعلنا هذا المقال تماما لمقال الأسبوع الماضي لئلا يتعجل متعجل فيظن أن نقد (تعميم) الدعاء على أهل الكتاب يتضمن نقد الدعاء على (الآخر) ـ بإطلاق!

ففي مقال الأسبوع الماضي الذي أُفرد لشكر الذين ناصروا قضية المآذن الإسلامية من أهل الكتاب: في النمسا وسويسرا وغيرهما: فيه محور رئيس يدعو إلى الكف عن (الدعاء البدعي)، أي الدعاء الذي يشمل أهل الكتاب المسالمين: غير الظالمين المعتدين، بل يشمل من هم أقرب إلى المسلمين في تأييد قضايا المسلمين. فهل هذا لغز أو تناقض، إذ كيف (يُبَعّض) الدعاء: ندعو على قوم دون قوم وهم جميعا غير مسلمين؟! ليس ثمة لغز، ولا تناقض.. وإنما هو العدل والإنصاف.. وإنما هو العلم والهدى.. وإنما هو المنهج الدقيق الصواب.

أولا: في صحيح البخاري (بابان متتابعان) في صميم قضية الدعاء هذه: (باب الدعاء على المشركين).. يليه مباشرة (باب الدعاء للمشركين).. وواضح من تبويب البخاري - وهو عالم بارع في هذا الفن - أنه يقصد مشروعية الجانبين في المسألة: جانب الدعاء على المشركين.. وجانب الدعاء للمشركين. وهو تقسيم منهجي فني مؤيد، بل مشتق من السيرة العملية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

1) فقد دعا النبي على المشركين، ومن ذلك قوله: «اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اهزمهم وزلزلهم».. وقوله: «اللهم اشدد وطأتك على مُضَر».. وقوله: «اللهم عليك بأبي جهل».. والراجح أنه دعاء على المشركين الظالمين المعتدين: بدليل أنه حين قال أصحابه له - وكأنهم أرادوا التعميم -: ادع على المشركين والعنهم. أبَى ذلك، وقال: «إنما بعثت رحمة ولم أُبعَث لعّانا».. وهذه المقابلة بين اللعن والرحمة (في كلام من أوتي جوامع الكلم) تُبَيّن حقيقة أن من وظيفته الرحمة العامة للعالمين: لا يطرد الناس من هذه الرحمة العامة: رحمة الله الرحمن الرحيم جل ثناؤه، وإلا تناقض مع جوهر رسالته وحقيقة مهمته: حاشاه، إذ اللعن هو الطرد أو الدعاء بالطرد من رحمة الله.

حقا إن الدعاء مشروع، ولكن على (الظالمين) - أنّى كان دينهم - (ومما لا شك فيه أن من الغربيين من ظلم المسلمين ولا يزال يظلمهم).. بيد أن هذا الدعاء على الظالمين مشروع حتى لغير المسلمين، فدعوة المظلوم مستجابة، وإن كان غير مسلم: ليس بينها وبين الله حجاب.. ولو ظلم مسلم غير مسلم فإن الله بعدله وقسطه يقف مع غير المسلم المظلوم ضد المسلم الظالم، فالله هو رب الناس أجمعين: لا رب المسلمين وحدهم، وهو سبحانه قائم بالقسط: «شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط».

2) ولقد دعا النبي للمشركين.. قدم الطفيل بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إن دَوْسا قد عصت وأبت، فادع الله عليها، فظن الناس أنه يدعو عليهم فقال: «اللهم اهد دَوْسا وائت بهم».

وإزالة الإشكال بين الدعاء (عليهم) والدعاء (لهم) يكون بفهم أن الدعاء على الظالمين المعتدين مشروع أو جائز (بتعبير بن بطّال)، وأن الدعاء إنما يكون للمسالمين.. ولذا فإن من مخالفة السنة: الدعاء على المسالمين، بل المتعاطفين مع الإسلام وقضايا المسلمين.. ونقرأ - في فتح الباري - هذه العبارة الذكية التقيّة: «ويحتمل التوفيق بينهما: أن الجواز حيث يكون في الدعاء ما يقتضي زجرهم عن تماديهم في الكفر، والمنع حيث يقع الدعاء عليهم بالهلاك على كفرهم».

ثانيا: القاعدة الثانية في منهج العدل والإنصاف والدقة والرحمة والفرقان: الكف عن دعاء الاستئصال والإبادة والاجتثاث. وهي قاعدة أو حقيقة بسطنا القول فيها - في وقت مبكر - في محاضرة ألقيناها في مركز الملك فيصل بالرياض قبل عشرين عاما تقريبا بعنوان (إعلام ما بعد الأزمة) - والأزمة المقصودة هي احتلال الكويت وما ترتب عليه -.. قلنا في تلك المحاضرة: (الحقيقة الثانية هي: أن بقاء البشر والحضارات هو موضوع الإسلام - هداية وإقرارا وإنكارا ونصحا -.. فإلى أي شيء يتوجه الإسلام بهداه: إذا فَنِيَ البشر، ومُحِقَت حضارتهم في حرب نووية.. مثلا؟.. إن الرؤية السوية لا تتمنى قط هلاك الآخرين من أجل أن يخلو وجه الأرض لنا - وحدنا - نحن المسلمين، فهؤلاء الآخرون قد يُسلموا، أو قد يُسلم أولادهم، أو قد يعمروا كوكبنا هذا بما يخدم الإسلام من تيسيرات ووسائل، أو لأن وجودهم - بما هم عليه - سنّة كونية أرادها الله عز وجل: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين»؟ ومعنا في ذلك هدى مبين.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فناداني مَلَك الجبال فسَلّم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أُطبِق عليهم الأخشبَين (أعظم جبال مكة) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا».. فلا الأخشبان، ولا حرب نووية، ولا زلازل استئصال وإبادة. بل بقاء البشر مع رجاء أن يتعلموا ويهتدوا ويرتقوا.. ونحسب أن (يوشيدا) رئيس الوزراء الياباني الأسبق كان يمزح حين قال: (إن إزالة الآلات والماكينات القديمة أمر مكلف. وقد فعله العدو نيابة عنا)، يشير بذلك إلى دمار هيروشيما وناغازاكي.. نحسبه مازحا، وإلا فليس هناك عاقل يتمنى الدمار الشامل للناس والحضارة لكي يبني من جديد.

لقد أُتيحَت الفرصة للنبي لكي يستأصل مشركي مكة في لمحة بصر أو أقرب من ذلك. فالله - ها هنا - هو الفاعل، وهو الذي إذا أراد شيئا أن يقول له (كن فيكون). ولكن النبي لم يوافق على اقتراح مَلَك الجبال.. لماذا؟.. لأن النبي هو (الرحمة المهداة)، ولأن (الناس) هم (موضوع) رسالته ودعوته، فإذا هلكوا فمن يدعو؟!

والله - جل ثناؤه - يعلم: أن النبي سيقول هذا القول قبل أن يقوله، بل هو - سبحانه - الذي هداه إلى هذا القول: «وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى».. والعبرة المستنبطة: أن الله تعالى يعلّمنا من خلال - موقف نبيه المهتدي بهديه -: أن أمنية الاستئصال والإبادة للبشر ليست من الدين، ولا من المنهج، ولا من مقاصد الإسلام في الوجود البشري. ولا من مرادات الله عز وجل في الاجتماع الإنساني. ولذا لا يجوز الدعاء بالاستئصال وقطع النسل والذرية.. إلخ.. وعدم الجواز مرتبط بمنهج (تكامل قيم الإسلام) - لا تعارضها - فإذا كان الراجح: أن قتال غير المسلمين مشروع بسبب ظلمهم وعدوانهم، لا بسبب كفرهم. فكذلك الدعاء عليهم إنما يكون بسبب ظلمهم وعدوانهم، لا بسبب كفرهم أو عدم إسلامهم.. ولنستأنس مرة أخرى بعبارة فتح الباري: عبارة (المنع حيث يقع الدعاء عليهم بالهلاك على كفرهم).

ثالثا: القاعدة الثالثة في المنهج هي (التبعيض) - لا التعميم - في الموقف من الناس المختلفين. فقاعدة (التعميم) - في مثل هذه الأمور بالذات - لا تخلو من الهوى والقصور والظلم.. مثلا لا يصح - قط -: أن يقول قائل (إن كل اليهود غير أمناء).. لماذا؟.. لأن القرآن (بعّض) ولم (يعمم)، فشهد لبعض اليهود بـ(الأمانة) فقال: «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك».. كما أن بعض اليهود غير أمناء.. ففي ذات الآية: «ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما».

رابعا : القاعدة الرابعة في المنهج هي: ألا نرضى للناس ما نكرهه لأنفسنا. فهذا موقف غير عادل قانونيا، وغير شريف أخلاقيا. إن المسلمين تذمروا كثيرا وطويلا - وهذا من حقهم بلا ريب - حين عممت دوائر غربية - سياسية وفكرية وإعلامية - تهمة العنف والإرهاب على الإسلام والمسلمين بسبب ممارسات قلة من المسلمين لهذه الخطايا والآثام والجرائم.. وكنا من الذين غضبوا وفنّدوا هذا التعميم في مقالات عديدة في هذه الجريدة، إذ رأينا فيه ظلما وجهالة وهوى وجموحا.

والعدل الأخلاقي يقتضي: ألا نتورط فيما غضبنا منه ورفضناه وهو (التعميم) الخاطئ، بمعنى ألا نُدين وألا ندعو على أقوام أبرياء مسالمين، بل وقفوا مع قضايانا في مسألة المآذن، وفي رفض غزو العراق، وفي قضية فلسطين وغير ذلك من القضايا العديدة: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون».