كازاخستان.. دولة مسلمة تحمل مهمات رائدة

TT

اتخذ قرار ترؤس جمهورية كازاخستان لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في العام 2010م خلال الاجتماع الذي عقد في الفترة من 29-30 نوفمبر 2008 في مدريد والذي حضره وزراء خارجية الدول الأعضاء في المنظمة. وقد أيد هذا القرار 56 دولة عضوا في المنظمة. وبالتالي ستلعب أستانا دور الوسيط بين المجتمعين الإسلامي والأوروبي وتساعد في تسوية العديد من الموضوعات في أوروبا.

يعد هذا القرار إنجازا سياسيا كبيرا لدولة ناشئة، ويتقاسم النجاح الذي تحقق كل من الشعب الكازاخستاني والدبلوماسية الكازاخستانية ورئيس الدولة الزعيم نزارباييف، من جانب، ومن جانب آخر فإن هذا الحدث يعد تاريخيا بالنسبة لأوروبا أيضا؛ فلأول مرة في تاريخ أوروبا تترأس دولة غير أوروبية وفقا للتصنيف التقليدي بل وتعد دولة آسيوية وإسلامية وسوفياتية سابقة. إلا أن هذا القرار لم يكن ليحدث صدفة ؛ وإنما هو نتيجة للسياسة التي تنتهجها كازاخستان بعد الحصول على استقلالها. وقد لعبت الشخصية الكاريزمية لنزارباييف في دعم ترشيح كازاخستان لترؤس المنظمة وهنا تجدر الإشارة إلى المبادرات التي اقترحها الزعيم الكازاخستاني لإنشاء مؤتمر التعاون وتدابير الثقة في آسيا ومؤتمر زعماء الديانات التقليدية والعالمية، وقد قدر المجتمع الدولي عاليا تخلي قيادة كازاخستان طواعية عن السلاح النووي.

وفي ظروف المواجهة والمعارضة من جانب الأعضاء القدامى في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي استطاعت الدبلوماسية الكازاخستانية إثبات إصرار ورسوخ، وتمكنت وزارة الخارجية الكزخية من تحقيق الهدف المأمول دون التخلي عن مصالحها القومية. إلا أن ترؤس منظمة الأمن والتعاون الأوروبي يعد انتصارا لشعب كازاخستان حيث استطاع الكازاخستانيون لأول مرة في التاريخ المعاصر الحصول على دعم دولي لجهودهم في تحديث دولتهم. إن ترؤس منظمة الأمن ليس هدفا في حد ذاته بالنسبة لكازاخستان بل هو خطوة في إستراتيجية البلاد طويلة الأمد تهدف إلى إعادة بناء الحياة السياسية والاجتماعية.

إن هذه المنظمة الدولية النافذة التي تضم 56 دولة عضوا قد اعترفت بنجاعة السياسة التي ينتهجها الرئيس نور سلطان نزارباييف في المجتمع الكازاخستاني واستطاعته الحفاظ على الاستقرار والسلام في فترة انتقالية من تاريخها. إن نموذج كازاخستان المعاصر يظهر إمكانات التعايش السلمي بين ممثلي مختلف الديانات والقوميات. وتجربة كازاخستان أصبحت واحده من أهم بواعث التقديم بطلب ترؤس لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي.

وليس من قبيل الصدفة أن تصبح كازاخستان أول دولة في الاتحاد السوفياتي السابق تختار رئيسة لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. وهذا القرار الذي اتخذ في مدريد يعد تأكيدا جديدا على أهمية تجربة التنمية المستدامة والمتوازنة التي يمكن أن يستفيد منها الأعضاء الآخرون في المنظمة. واليوم ينظر إلى كازاخستان بوصفها ضمانة للتنمية والاستقرار في آسيا الوسطي بأكملها وتعد شريكا مهما لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي في المنطقة. ويمكن أن يساعد ترؤس كازاخستان للمنظمة على زيادة نفوذ المنظمة في منطقة آسيا الوسطي وفي فضاء رابطة الدول المستقلة بأكمله، وستشهد فترة ترؤس المنظمة توجيه اهتمام كبير نحو مصالح الدول التي تقع شرق فيينا، والسبب أن ترشيح كازاخستان لقي دعما كبيرا من دول رابطة الدول المستقلة. ونذكر أن القرار المبدئي بإدراج ترشيح كازاخستان كان قد اتخذ في عام 2005م في قازان عاصمة تتارستان ومن ثم تأكد في قمة رابطة الدول المستقلة في دوشانبيه عاصمة طاجكستان في أكتوبر 2007م.

وتنشط كازاخستان في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي وتلعب دورا نشطا في إطار الدبلوماسية الاستباقية والتنمية الموضوعية على كافة المستويات العسكري والسياسي والإنساني والاقتصادي والبيئي. وبشكل عام فإن مشاركة كازاخستان في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي بوصفها منظمة تشاورية متعددة يعد أحد عناصر جذب الدولة إلى بنية الأمن الأوروبي مما يساعد على تحقيق الاستقرار في فضاء أوراسيا. وكما أشار الرئيس نور سلطان نزارباييف: «تعد كازاخستان مؤيدا ومناصرا قويا لدعم التعاون مع منظمة الأمن والتعاون الأوروبي بوصفها إحدى المنظمات الدولية النافذة».

تنطلق قيادة كازاخستان من كون منظمة الأمن والتعاون الأوروبي تعد ليس فقط منتدى للنقاش بل وتتمتع بقدرات ضخمة لدعم السلام والاستقرار في منطقتها وفي مجال تسوية النزاعات وتنسيق عمليات حفظ السلام. وهي في نفس الوقت منظمة فاعلة في مجال حل القضايا المهمة على جدول أعمالها. وتتمسك كازاخستان بالرأي القائل بأن المنظمة يجب أن توجه جهودها إلى تفعيل وإثبات ذاتها في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية.

إن الأهمية الكبيرة التي تمثلها المنظمة لكازاخستان تعود إلى أنها واحدة من المنظمات الأوروبية القليلة التي تتمتع فيها كازاخستان بحق التصويت وإمكانية التأثير على صياغة القرارات السياسية. وتعد منظمة الأمن والتعاون الأوروبي منتدى شاملا تستطيع فيه كازاخستان الدفاع عن مصالحها وتحقيق أهدافها. ويبدو أن لدى كازاخستان خطة عمل مبدئية وتبدي الاستعداد لتنسيق جهود المنظمة لحل أهم القضايا. إن الهدف من ترؤس كازاخستان لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي هو الارتقاء بنفوذ جمهورية كازاخستان على الساحة الدولية عن طريق دعم مواقفها في إطار المنظمة وزيادة تواجدها في المهمات والمؤسسات التابعة للمنظمة والاستفادة من أدوات المنظمة في أي من المناطق التابعة لها والبحث عن حلفاء لحل القضايا الإستراتيجية في السياسة الخارجية لكازاخستان.

ويؤمل في أن رئاسة كازاخستان للمنظمة تحدث تأثيرا على المنطقة حيث تستطيع الإسهام بشكل عملي في جهود منظمة الأمن والتعاون الأوروبي والأمم المتحدة. وأن تعمل كوسيط عند احتدام الموقف وتساهم في المجال الإنساني والاقتصادي بما في ذلك توريد المواد الغذائية وإنشاء مخازن للمواد الإنسانية على أراضيها تحت رعاية الأمم المتحدة وتوجيه المتخصصين من المدنيين في إطار المهام الدولية لحفظ السلام لأفغانستان والعراق.

وهنا يمكن الاستفادة أيضا من مركز تجنب النزاعات التابع لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي وهو المركز الذي تتعاون معه كازاخستان بشكل كبير. ومن المعروف أن المركز يكفل تنفيذ مهام المنظمة في التحذير وتجنب النزاعات وتسوية الأزمات وإعادة الإعمار بعد الحروب.

ومع تولي كازاخستان رئاسة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي فإن هناك بعدا جديدا يظهر وهو «البعد الأوراسي» حيث سيلد شكلا جديدا من التعامل مع تسوية القضايا الدولية القديمة (ومنها كوسوفو وقضية قبرص). وكازاخستان قادرة اليوم على لعب دور الوسيط بين العالمين الإسلامي والأوروبي وهذه الوساطة ستساعد على حل الكثير من القضايا الملحة في فضاء أوراسيا. ويقدر المجتمع الدولي إسهامات أستانا في الأمن الإقليمي ودعم نظام عدم الانتشار والعمل ضمن الجهود الدولية لتسوية الأزمة في أفغانستان والعراق. وتؤيد كازاخستان دائما تطوير الحوار بين الحضارات والثقافات والديانات. واليوم تستطيع أستانا أن تقول كلمتها في مجال نشاط دعم السلام الطوعي. وهذه الرؤية الجديدة ستساعد منظمة الأمن والتعاون الأوروبي على الخروج من الأزمة والعودة إلى دورها السياسي لحل الخلافات في مختلف أنحاء القارة.

وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى أن ترؤس منظمة الأمن والتعاون الأوروبي هو نتيجة طبيعية للسمعة الإيجابية لرئيس كازاخستان /نور سلطان نزارباييف، ونشاطه الدولي والإصلاحي والسلمي يعد داعما كبيرا لترشيح كازاخستان. بالإضافة إلى أن الوضع الدولي الجديد لكازاخستان يسمح بدعم المبادرات الكازاخستانية التي تمثل أهمية إلى المجتمع الدولي ككل.

ويتسع نطاق الموضوعات والقضايا التي يمكن لكازاخستان طرحها من خلال ترؤسها لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي كونها لا تستطيع أن تقف موقفا سلبيا من قضايا الاستقرار والأمن في أوروبا بما في ذلك خطط الولايات المتحدة الأميركية لنشر منظومة الصواريخ في بولندا والتشيك. فهذه القضية تمس مصالح الأمن للعديد من الدول الأوروبية وتؤثر على الاستقرار في أوروبا والعالم.

ثانيا إن كازاخستان بوصفها مرشحا جماعيا من دول رابطة الدول المستقلة ملتزمة بقضية التوزيع الجغرافي العادل لنشاط منظمة الأمن والتعاون الأوروبي والقضايا على «المعايير المزدوجة» خاصة فيما يتعلق بقضايا دول الاتحاد السوفياتي السابق.

وثالثا: قضية إصلاح منظمة الأمن والتعاون الأوروبي حيث جذب الرئيس نزارباييف اهتمام شعوب الدول الأوروبية حيث يعتقد أن هذه القضية ستبقى موضوعا لمباحثات وحوارات بمشاركة من كازاخستان في إطار منظمة الأمن والتعاون الأوروبي.

رابعا: تنوي كازاخستان مناقشة إمكانية توسيع التعاون بين منظمة الأمن والتعاون الأوروبي والعالم الإسلامي. وتدعو كازاخستان الدول الإسلامية المشاركة النشطة في صياغة جدول أعمال نشاط المنظمة في عام 2010م وتقترح بحث نقاط ووجهات النظر المشتركة بين منظمة المؤتمر الإسلامي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. ووضع أساس لبداية حل قضايا الهجرة واندماج الأقليات الإسلامية في المجتمعات الأوروبية ودعم حقوق المرأة المسلمة والشباب في المجتمعات الغربية. وبشكل عام الحوار بين الغرب والشرق الإسلامي.

ويجب القول إن بداية هذا الحوار تعود إلى شهر أكتوبر من العام 2009م عندما شهدت مدينة أستانة انعقاد المنتدى الدولي «عالم واحد: التقدم عبر التنوع» بمشاركة وزراء خارجية الدول الإسلامية والغربية. وهو المنتدى الذي طرح فكرة تشبه فكرة «تحالف الحضارات» والتي تخدم تجميع الإرادة السياسية للتغلب على الشقاق وانعدام الثقة المتنامية بين الحضارات.

مهمة يمكن القيام بها :

هناك مهمة أخرى تقف أمام كازاخستان ألا وهي دعم دور منصب الرئيس في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي. فللوهلة الأولى يبدو أنها منصب شرفي (الأول بين الأقران). إلا أن ترؤس مثل هذه المنظمة النافذة دوليا يعني تحمل المسؤولية السياسية عنها. وهنا تبرز ضرورة القيام بسياسات أكثر فاعلية ونشاطا من جانب كازاخستان بالاستفادة من اللقاءات والمشاورات في إطار منظمة الأمن والتعاون الأوروبي. وهنا كل شيء يبدو مهما. على سبيل المثال دعم التعاون بين كازاخستان والرؤساء السابقين للمنظمة أي بين دول الترويكا في المنظمة وهي فريق الدول الفاعل المعني بنجاح الدولة الرئيسة. وينتظر أن تستفيد كازاخستان أيضا من بنى منظمة الأمن والتعاون الأوروبي والإعداد الدقيق لاجتماعات وزراء خارجية المنظمة ليس فقط على المستوى التنظيمي بل وعلى مستوى المضمون. ويمكن أن تشهد اللقاءات والاجتماعات حلولا مختلفة ومشاريع قرارات جاهزة. وهذا يتطلب تشكيل مجموعات عمل مبكرة لإعداد الوثائق بشكل جيد والمشاركة بفعالية في التعاون مع أمانة المنظمة. ويجب أن تستخدم الرئاسة كل الوسائل المتاحة وبالتالي الكوادر المحترفة. إن المهمة التي تنتظر كازاخستان في عام 2010 هي تبعث على الفخر والمسؤولية في نفس الوقت إلا أنها مهمة صعبة وتتطلب الصبر والثبات والمتابعة. إلا أنها مهمة تستطيع كازاخستان القيام بها، وستثمل مرحلة مهمة في تاريخ جمهورية كازاخستان، وتاريخ هذه المنظمة الرائدة، وهي فرصة مواتية للدول الإسلامية للاستفادة من العام 2010 لتحقيق الكثير على المستوى الأوروبي من خلال البوابة الكازخية الرائدة.

* مستشار إعلامي وباحث

في الشؤون الروسية