في صنعاء الحل والربط

TT

يمكن لمن يكتب أن يشير بأصابع الاتهام حول ما يجري في اليمن إلى أطراف خارجية متعددة وأهمها إيران وكفى الله المؤمنين شر القتال. والحق بأنه ما من حرب أبدا بقيت حصرا لا دخل لأطراف خارجية فيها، فمنذ اندلاع الحروب عبر التاريخ، يتدخل سماسرة السلاح وتجار المغانم وكَسَبة السياسة، وناشدو تحقيق البطولات الإعلامية والوهمية على حساب الآخرين، ويكون دوما ضحيتها الإنسان.

تمر السنون ويتكدّس الفقراء والنازحون: مخيمات جديدة ومساعدات دولية أممية تكفكف دمع اليتامى وتواسي الثكالى وتحاول علاج الجرحى ودفن الموتى وسد رمق جوع الأطفال وصرخاتهم ألما وحيرة بريئة لما يجري. الوضع في اليمن مأساوي بشكل لم يعد يسمح بالسكوت عنه لمن يحمل ضميرا ومشاعر تجاه أخيه الإنسان.

الفوضى والحرب الأهلية اليمنية في شمال اليمن ليست صنيعة إيرانية، هذه حقيقة، ومن يقل غير ذلك فهو لا يعرف تاريخ المنطقة وفوضويتها منذ عهد الإمامة، فالمنطقة لم تخضع للحكومات في صنعاء، وبقيت تتمتع «بالفوضى الذاتية» التي تحكمها الأعراف القبلية والتهريب وعصابات «حق الخشبة» (قطاع الطرق الذين يغلقونها بخشبة تعترض طريق المسافر حتى يدفع لهم ضريبة رفع الخشبة لتمر السيارة). وبقيت صعدة سوقا للسلاح منذ القرن الماضي، تشتري السلاح من أسواقها جهارا نهارا من المسدس حتى مضاد الطائرات، لا بل حتى الدبابات يمكن تدبير أمرها لو كان لديك المال الكافي. وكان ذلك يحدث أمام أعين الحكومة المركزية اليمنية ولم تحرك ساكنا لأن الأمر يمكن احتواؤه في مناطق معينة، وكانت سياسة تأجيل ثبت فشلها لاحقا حين استثمرت إيران وغيرها وضع الحوثيين لتمدهم بالمال طمعا في استخدامهم ضمن استراتيجيتها للهيمنة والنفوذ، وتماشيا مع سياسة إضعاف المحيط العربي بها وبالذات المملكة العربية السعودية الدولة المحورية الرائدة في المنطقة. تحرك الحوثيون شمالا نحو حدود المملكة، ليس من أجل احتلالها؛ فذاك مستحيل، ولكن من أجل إشغالها ومحاولة تشتيت تركيزها عن القضايا الكبرى التي تحملها على عاتقها.

وفي الجنوب، فشلت الحكومة اليمنية التي تحكم صنعاء منذ أكثر من ثلاثين سنة في خلق شعور يمني بالمواطنة يمتد من جبل الدخان حتى حضرموت، وشعر الجنوبيون أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وبدأوا بمطالب معيشية لم تتحقق، فاستغلهم الساسة، ورفعوا شعارات المطالب العادلة لهم حتى تحولت إلى مطالب بالانفصال والعودة إلى المربع الأول: يمن جنوبي وآخر شمالي!

أما الوسط والجبال، فـ«القاعدة» هي صاحبة الكلمة العليا فيهما، بل ولها تأثيرها في أجهزة الأمن اليمنية، وارتكبت خروقات وفضائح أمنية تدل على مدى تغلغل «القاعدة» في أجهزة حساسة. وكانت الحكومة اليمنية تغض الطرف عن «القاعدة» - تذاكيا - على الأميركان للحصول على مساعدات تذهب للحكومة وأجهزتها، بدلا من تحسين الأوضاع المعيشية، أو الاستماع للمطالب الشعبية المشروعة التي استغلتها إيران عبر أداتها الحوثية.

في اليمن اليوم، تدور حرب ضروس في شمالها، وقصف على «القاعدة» في وسطها، وتمرد ومطالب بالانفصال في جنوبها، ومن العبط إلقاء كل اللوم على الأطراف الخارجية وإيران دون أن تتحمل الحكومة اليمنية وزر ما يجري وهي التي أمسكت «بتلابيب الديمقراطية» اليمنية منذ ثلاثة عقود.

الحقيقة المرة أن النظام في اليمن لم ينجح في تنمية حقيقية، فلا تعايشَ سلميا لفئات وقبائل اليمن، ولم يُضبط الأمن حتى داخل المدن، ولا محاربة للفساد ووقف المتنفذين أصحاب «العشرين» (نسبة العشرين في المائة التي يطلبها مسؤول كبير عن كل عقد استثماري)، أقول: إن إدراك هذه الحقائق هو المدخل المنطقي لفهم ما يجري في اليمن، وغير ذلك فهو غير المعقول عقلا ولا المقبول واقعا.