فوبيا المطر!

TT

الذي يقرصه الثعبان يخاف من الحبل.. هذا حالنا في جدة بعد أن جرى علينا الذي جرى جراء سيول الأربعاء التي أودت بحياة أكثر من مائة شخص في المدينة، فما أن هطلت قبل أيام بعض الأمطار حتى أصابت الناس نوبات هلع، فازدحمت الشوارع بالسيارات الهاربة إلى مآمنها، وتسابق سكان الأدوار الأرضية إلى الاحتماء بالأسطح والأدوار العلوية خشية أن يداهمهم السيل كما دهم من قبلهم، وبلغت نسبة الغياب في المدارس ذروتها، وكان المشهد ينبئ عن حالة فوبيا من المطر أصابت سكان هذه المدينة، وهم على حق، فالذي حدث يصعب اقتلاعه من الذاكرة قبل مرور سنوات.

ولأول مرة أشعر أن سكان جدة أصبحوا يتابعون النشرة الجوية يوميا باهتمام قبل خروجهم للتأكد من أن سماءهم بلا غيوم، الأمر الذي جعلني أترحم على زمن النويلاتي والكرّاني والحلبي وغيرهم من قراء النشرة الجوية الذين لم نكن نلقي لهم بالا، إذ كنا نعتبر النشرة الجوية مجرد ترف تلفزيوني لتقليد القنوات العالمية.

ويقال إن أكثر الناس إضحاكا هم أكثرهم قلقا وحيرة، وأستطيع أن أجزم أن هذا حال سكان جدة، إذ تنطلق من هذه المدينة يوميا عشرات الرسائل الهاتفية الساخرة التي تتندر بما آلت إليه أحوال المدينة، فهم يطلقون على أكبر بحيرة للمجاري في مدينتهم اسم «المسك ووتر بارك»، ويطلقون الدعوات لزيارة أضخم حديقة مائية، والاستمتاع بمشاهدة عرض حي لرجل يشرب مياها ملوثة، وكذلك رؤية فصائل نادرة من القوارض والحشرات العملاقة، وعلى مثل هذا الأمر ينطبق القول «شر البلية ما يضحك»، فالناس في جدة لم يكونوا في يوم من الأيام ممن يجدلون ضفائر الفكاهة، لكن المأساة حولتهم فجأة إلى ساخرين لا يشق لهم غبار.

ويمكن القول إن جدة لم تفق بعد من صدمة سيل الأربعاء، وكذلك جهاز أمانتها، فآثار العدوان - عدوان السيل - لم تزل في الكثير من الأماكن، فشوارعها مسكونة بالمستنقعات، والحفر، والارتباك، وقد تحتاج المدينة إلى عشرات الشموس، وعشرات الأمانات لتجفيفها من البلل.

والجانب الإيجابي في سيول الأربعاء أنها كشفت أن عشاق جدة ليسوا سكانها فقط، بل هم في كل مكان من هذا الوطن وخارجه، إذا ما تجاوزنا قول من قال: «إن ما يجري من حديث عن الكارثة التي حدثت في محافظة جدة في الصحف هو نوع من المبالغة»، وأعتذر عن إيقاف المقال عند هذا الحد من «المبالغة»، فموعد النشرة الجوية قد أزف، ولا صوت - هذه الأيام - يعلو على صوت قارئ النشرة الجوية، فالعمر «مش بعزقة» على قول إخواننا المصريين.