الديمقراطية والقانون

TT

من أقسى مآسي الحروب أن القائمين فيها كثيرا ما يضطرون لاتخاذ أفظع القرارات والإجراءات. وقع تشرشل بمثل ذلك في الحرب العالمية الثانية. كان العلماء الإنجليز قد تمكنوا من حل الشيفرة العسكرية للألمان، الإنجاز الخطير الذي ساعد الحلفاء على النصر. جاءت المخابرات بتقرير لتشرشل بأن الألمان سيقومون بغارة شنيعة على مدينة كوفنتري. سألوه هل ندعو الجمهور للجلاء من المدينة حرصا على حياتهم؟ إذا فعلوا ذلك فسيعرف الألمان أن الإنجليز قد علموا بالخطة بما يعني أنهم أصبحوا يعرفون الشيفرة الألمانية. خيار رهيب! إذا لم يخبروا الجمهور فسيموت ألوف من الناس. إذا أخبروهم فإن الألمان سيدركون انكشاف شيفرتهم. كل شيء من أجل النصر. فلم يخبروا الجمهور بالمبيّت لهم. وتعرضت المدينة لغارة من أقسى غارات الحرب.

انتهى القصف وذهب تشرشل ليتفقد المأساة من أجل الوطن. كانت معظم أبنية المدينة ودورها قد انهارت إلى الأرض ومات أهلها. سأل تشرشل عمدة المدينة، هل وقعت حوادث نهب وسلب من الأبنية المنهارة؟ كلا. لم يقع شيء من ذلك. فأجاب تشرشل: إذن فنحن في خير. طالما بقي صرح النظام والقانون قائما لم ينهر، فبريطانيا في خير.

لا تعتز بريطانيا بشيء كما تعتز بديمقراطيتها. وما من عضادة تقيم صرح تلك الديمقراطية كسيادة القانون. أسمع كل يوم عن شتى القرارات القضائية الغريبة واللاإنسانية أو اللاعقلانية التي تصدر من المحاكم البريطانية. يصدرها القاضي في أسف وأسى ويقول آسف، ولكن هذا ما ينص عليه القانون. وإذا لم يعجبنا فعلى البرلمان أن يعدله. وكان شكسبير أول من قال إن القانون حمار. ولكن هذا الحمار يحمل لنا كل أسباب عيشنا وبقائنا وسلامتنا.

نوري المالكي يحكم العراق الآن بشعار دولة القانون. ولكنني أجد حكومته تصدر شتى القرارات الاعتباطية الخارجة عن القانون. مسكوا في مطار هيثرو عجوزا لا تعرف كلمة واحدة من اللغة الإنجليزية. وجدوها تحمل جواز سفر دبلوماسيا! يعطي العراق الآن هذه الجوازات لكل من هب ودب. ماذا يعني ذلك؟ سيعني سقوط جوازات السفر العراقية الدبلوماسية كسقوط الدينار العراقي، وسقوط الأمن العراقي. وأخيرا سقوط هيبة العراق، وهيبة دولة القانون.

العراق علّم البشرية احترام القانون عندما أصدر حمورابي شريعته ونصبها في وسط المدينة، محفورة على الصخر، ليتبعها الناس. ولكن صدام حسين علّم العراقيين كسر القانون عندما قال «هو شنو القانون، كلمتين نكتبها بالليل ونمحيها بالنهار». وحكم بشعار دولة كسر القانون. وتعلّم الناس منه. ونردد دوما أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وهي الحكمة التي أعطاها أينشتاين صيغتها العلمانية بقوله إن المجتمع هو حصيلة تفكيرنا ولا يمكننا تغييره دون تغيير تفكيرنا. السؤال الآن هل سيستطيع نوري المالكي تغيير تفكير العراقيين، فيتعلمون احترام القانون، أم سيستطيع العراقيون تغيير تفكير المالكي، فيعلمونه كسر القانون، وهو ما يجري في العراق الآن؟